الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **
وهى مختصة بالأزواج الثمانيةِ المذكورةِ في سُورة (الأنعام) ولم يُعرف عنه صلى اللَّه عليه وسلم، ولا عن الصَّحابة هَدْى، ولا أُضحية، ولا عقيقةٌ مِن غيرها، وهذا مأخوذ من القرآن من مجموع أربع آيات.. إحداها: قوله تعالى: والثانية: قولُه تعالى: والثالثة: قولُه تعالى: الرابعة: قولُه تعالى: فدلَّ على أنَّ الذي يبلُغ الكعبةَ من الهَدْى هو هذه الأزواجُ الثمانية وهذا استنباطُ علىّ بن أبى طالب رضى اللَّه عنه. والذبائح التي هي قُرْبة إلى اللَّه وعبادة: هي ثلاثة: الهَدْىُ، والأُضحية، والعقيقةُ. فأهدى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الغنَم، وأهدى الإبل، وأهدى عن نسائه البقرَ، وأهدى في مقامه، وفى عُمرته، وفى حَجته، وكانت سُـنَّتُه تقليدَ الغنم دون إشعارها. وكان إذا بعث بهَدْيِه وهو مُقيم لم يَحْرُمْ عَلَيْهِ شىء كان مِنه حَلالاً. وكان إذا أهدى الإبل، قلَّدها وأَشْعَرَها، فيشُقُّ صفحة سَنَامِها الأيمنِ يسيراً حتى يَسيلَ الدم. قال الشافعى: والإشعار في الصفحة اليمنى، كذلك أشعر النَّبىُّ صلى الله عليه وسلم. وكان إذا بعث بهَدْيهِ، أمرَ رسولَه إذا أشرف على عَطَبٍ شىءٌ منه أن يَنحره، ثم يَصْبغَ نعلَه في دمه، ثم يجعلَه على صفحته، ولا يأكل منه هو، ولا أحدٌ من أهل رفقته ثم يقسِمُ لحمه، ومنعه من هذا الأكل سداً للذريعة، فإنه لعلَّه ربَّما قصَّر في حفظه ليُشارِفَ العطَب، فينحره، ويأكل منه، فإذا علم أنه لا يأكلُ منه شيئاً، اجتهَد في حفظه. وشرَّك بين أصحابه في الهَدْى كما تقدَّم:البدنةُ عن سبعة، والبقرةُ كذلك. وأباح لسائق الهَدْى ركوبَه بالمعروف إذا احتاج إليه حتى يَجِدَ ظهراً غيرَه وقال علىُّ رضى اللَّه عنه: يشربُ مِن لَبنها ما فضَل عن ولدها. وكان هَديُه صلى اللَّه عليه وسلم نحرَ الإبل قياماً، مقيَّدة، معقولَة اليُسرى، على ثلاث، وكان يُسمِّى اللَّهَ عِند نحره، ويُكبِّرُ، وكان يذبح نُسُكه بيده، وربما وكَّل في بعضه، كما أمر علياً رضى اللَّه عنه أن يذبح ما بقى من المائة. وكان إذا ذبح الغنم، وضع قدَمه على صِفاحها ثم سمَّى وكبَّر، وذبح، وقد تقدَّم أنه نحر بمِنَى وقال:(إنَّ فِجاجَ مَكَّةَ كُلَّهَا مَنْحَرٌ)وقال ابنُ عباس: مناحِرُ البُدن بمكة، ولكنها نُزِّهَتْ عن الدماء، ومِنَى مِن مكة، وكان ابنُ عباس ينحرُ بمكة. وأباحَ صلى اللَّه عليه وسلم لأُمَّتِه أن يأكُلوا من هَداياهم وضحاياهم، ويتزوَّدوا منها، ونهاهم مرةً أن يدَّخِروا منها بعد ثلاثٍ لدافَّةٍِ دَفَّتْ عليهم ذلكَ العامَ مِن الناس، فأحبَّ أن يُوسِّعوا عليهم. وذكر أبو دواد من حديث جُبير بن نفير، عن ثوبان قال: ضَحَّى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثم قَالَ: (يا ثَوْبَانُ أَصْلِحْ لَنَا لَحْمَ هذِهِ الشَّاةِ) قال: فَمَا زِلْتُ أُطْعِمُهُ مِنْهَا حَتَّى قَدِمَ المَدِينَةَ. وروى مسلم هذه القصة، ولفظه فيها:أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال له في حَجة الوداع:(أَصْلِحْ هذَا اللَّحْمَ) قال: فَأصْلحْتُه، فَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ مِنْهُ حَتَّى بَلَغَ المَدِينَة. وكان رُبَّما قسم لُحوم الهَدْى، ورُبما قال: (مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ) فعل هذا، وفعل هذا، واستدل بهذا على جواز النُّهبة في النِّثار في العُرس ونحوه، وفُرِّقَ بينهما بما لا يَتَبَّينُ. وكان مِن هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم ذبحُ هَدْى العُمرة عند المروةِ، وهَدْىِ القِران بمِنَى، وكذلك كان ابنُ عمر يفعل، ولم ينحر هَدْيَه صلى اللَّه عليه وسلم قطُّ إلا بعد أن حَلَّ، ولم ينحره قبل يومِ النحر، ولا أحدٌ مِن الصحابة البتة، ولم ينحره أيضاً إلا بعد طُلوع الشمس، وبعد الرمى، فهى أربعة أُمور مرتبة يوم النحر، أولها: الرمىُ، ثم النَّحرُ، ثمَّ الحلقُ، ثم الطوافُ، وهكذا رتَّبها صلى اللَّه عليه وسلم ولم يُرخِّص في النحر قبل طلوعِ الشمس البتة، ولا ريبَ أن ذَلكَ مخالف لهَدْيِه، فحكمُه حكمُ الأُضحية إذا ذُبحت قبلَ طلوعِ الشمسِ. وأما هديُه صلى الله عليه وسلم في الأضاحى فإنه صلى اللَّه عليه وسلم لم يكن يَدَعُ الأُضحية، وكان يُضَحِّى بكبشين، وكان ينحرُهما بعد صلاة العيد، وأخبر أن: (مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَلَيْسَ مِنَ النُّسُكِ في شَىءٍ، وإنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ). هذا الذي دلَّت عليه سُـنَّتُه وهَدْيُه، لا الاعتبارُ بوقت الصلاة والخطبة، بل بنَفس فِعلها، وهذا هو الذي ندينُ اللَّه به، وأمرهم أن يَذبحوا الجَذَعَ مِن الضَّأْنِ والثَّنِىَّ مِمَّا سِوَاهُ، وهى المُسِنَّة. وروى عنه أنه قَال: (كُلُّ أيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ) لكنَّ الحديثَ مُنقطعٌ لا يثبُت وصلُه. وأما نهيهُ عن ادِّخارِ لحومِ الأضاحى فوقَ ثلاثٍ، فلا يدُل على أن أيام الذبح ثلاثة فقط، لأن الحديث دليل على نهى الذابح أن يدَّخِرَ شيئاً فوق ثلاثة أيام مِن يوم ذبحه، فلو أخَّر الذبح إلى اليوم الثالث، لجاز له الادِّخارُ وقتَ النهى ما بينه وبين ثلاثة أيام، والَّذين حدَّدوه بالثلاث، فهموا من نهيه عن الادِّخار فوقَ ثلاث أنَّ أولها من يوم النحر، قالوا: وغيرُ جائز أن يكون الذبحُ مشروعاً في وقت يحرُم فيه الأكلُ، قالوا: ثم نُسِخَ تحريم الأكل فبقى وقت الذبح بحاله. فيقال لهم: إن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَ إلا عن الادِّخارِ فوق ثلاث، لم ينه عن التضحية بعد ثلاث، فأين أحدهما من الآخر، ولا تلازم بين ما نهى عنه، وبين اختصاصِ الذبح بثلاث لوجهين.. أحدهما: أنه يسوغُ الذبحُ في اليوم الثانى والثالثِ، فيجوزُ له الادِّخار إلى تمام الثلاث من يوم الذبح، ولا يَتِمُّ لكم الاستدلالُ حتى يثبت النهىُ عن الذبح بعد يوم النحر، ولا سبيلَ لكم إلى هذا. الثانى: أنه لو ذبح في آخر جزءٍ من يوم النحر، لساغ له حينئذ الادِّخارُ ثلاثة أيامٍ بعده بمقتضى الحديث، وقد قال علىُّ بن أبى طالب رضى اللَّه عنه: أيامُ النحر: يوم الأضحى، وثلاثة أيام بعده، وهو مذهبُ إمام أهلِ البصرةِ الحسنِ، وإمام أهل مكة عطاءِ بن أبى رباح، وإمامِ أهلِ الشام الأوزاعى، وإمامِ فقهاء أهلِ الحديث الشافعى رحمه اللَّه، واختاره ابنُ المنذر، ولأن الثلاثة تختصُّ بكونها أيام مِنَى، وأيام الرمى، وأَيام التشريق، ويحرُم صيامُها، فهى إخوة في هذه الأحكام، فكيف تفترق في جواز الذبح بغير نص ولا إجماع. وروى من وجهين مختلفين يَشُدُّ أحدُهما الآخر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كُلُّ مِنَى مَنْحَرٌ، وَكُلُّ أَيامِ التَّشريِقِ ذَبْحٌ)، وروى من حديث جبير بن مطعم وفيه انقطاع، ومن حديث أُسامة بن زيد، عن عطاء، عن جابر. قال يعقوب بن سفيان: أُسامة بن زيد عند أهل المدينة ثقة مأمون، وفى هذه المسألة أربعةُ أقوال، هذا أحدُها. والثانى: أنَّ وقتَ الذبح، يومُ النَّحر، ويومانِ بعده، وهذا مذهبُ أحمد، ومالك، وأبى حنيفة رحمهم اللَّه، قال أحمد: هو قولُ غيرِ واحدٍ من أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وذكره الأثرم عن ابن عمر، وابن عباس رضى اللَّه عنهم. الثالث: أنَّ وقتَ النحر يومٌ واحد، وهو قولُ ابنِ سيرين، لأنه اختصَّ بهذه التسميةِ، فدلَّ على اختصاص حكمِها به، ولو جاز في الثلاثة، لقيل لها: أيامُ النحر، كما قيل لها: أيامُ الرمى، وأيامُ مِنَى، وأيامٍُ التشريقِ، ولأن العيد يُضاف إلى النَّحر، وهو يومٌ واحد، كما يقال: عيد الفطر. الرابع: قولُ سعيدِ بنِ جبير، وجابرِ بن زيد: أنه يوم واحد في الأمصار، وثلاثةُ أيام في مِنَى، لأنها هناك أيام أعمالِ المناسكِ من الرمىِ والطواف والحلقِ، فكانت أياماً للذبح، بخلاف أهلِ الأمصار. ومن هَدْيه - صلى اللَّه عليه وسلم -: أن مَن أراد التَّضحيةَ، ودخل يومُ العشر، فلا يأخُذْ مِن شعره وبشره شيئاً، ثبت النهىُ عن ذلك في (صحيح مسلم) وأما الدارقطنى فقال: الصحيحُ عندى أنه موقوف على أُمِّ سلمة. وكان مِن هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم اختيارُ الأُضحيةِ، واستحسانُها، وسلامُتها مِن العُيوب، ونهى أَنْ يُضَحَّى بِعَضْبَاءِ الأَذُنِ والقَرْنِ، أى: مقطوعة الأذن، ومكسورة القَرن، النصف فما زاد، ذكره أبو داود، وأمرَ أَنْ تُسْتَشْرَفَ العَيْنُ والأُذُنُ، أى: يُنظر إلى سلامتها، وأن لا يُضحَّى بِعَوْرَاءَ، ولا مُقابَلَة، ولا مُدَابَرَة، ولا شرقاءَ، ولا خَرْقَاءَ. والمُقَابَلَةُ: هي التي قُطِعَ مُقَدَّمُ أُذُنِها، والمُدَابَرَةُ: التي قُطِعَ مُؤَخَّرُ أُذُنِهَا، والشَّرُقَاءُ: التي شُقَّتْ أُذُنُها، والخَرْقَاءُ: التي خُرِقَتْ أُذُنُها. ذكره أبو داود. وذكر عنه أيضاً: (أَرْبَعٌ لاَ تُجْزِئُ في الأَضَاحِى: العَوْرَاءُ البَيِّنُ عَوَرُهَا، والمَرِيضَةُ البَيِّنُ مَرَضُهَا، والعَرْجَاءُ البَيِّنُ عَرَجُهَا، والكَسيرَةُ التي لا تُنْقى، والعَجْفَاءُ التي لا تُنْقى) أى: من هزالها لا مُخَّ فيها. وذكر أيضاً أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن المُصْفَرةِ، والمُسْتَأْصَلَةِ، والبَخْقَاء، والمُشَيَّعَةِ، والكَسْراء. فالمُصُفَرة: التي تُستأصل أذُنها حتى يَبْدُوَ صِمَاخُها، والمُستَأْصَلَةُ: التي استُؤصِلَ قَرْنُها مِنْ أَصْلِهِ، والبَخْقَاء: التي بخقت عينُها، والمشيَّعة: التي لا تتبع الغنم عَجَفاً وضَعْفاً، والكَسْرَاءُ: الكَسِيرة، واللَّه أعلم. وكان مِن هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم أن يُضحِّىَ بالمُصلَّى، ذكره أبو داود عن جابر أنه شَهِدَ معه الأضحى بالمصلَّى، فلما قَضَى خُطبته نزل مِن منبره، وأُتى بِكَبْشٍ، فذبحه بيده وقال: (بِسْمِ اللَّه، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، هذَا عَنِّى وَعَمَّن لَمْ يُضَحِّ مِنْ أمتى) وفى (الصحيحين) أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان يَذْبَحُ وينحَرُ بالمصَلَّى. وذكر أبو داود عنه: أنه ذبح يومَ النحر كبشيْنِ أقرنين أمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَينِ، فلما وجَّهَهُمَا قال: (وجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً، ومَا أَنَا مِنَ المُشْركِينَ، إنَّ صَلاتى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتى للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لا شَريكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أوَّلُ المُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ، بِسْمِ اللَّهِ، واللَّهُ أكْبَرُ) ثُمَّ ذَبَح. وأمَر الناسَ إذا ذبحوا أن يُحسِنُوا الذبح، وإذا قتلُوا أن يُحسِنوا القِتلة، وقال: (إن اللَّهَ كَتَبَ الإحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ). وكان من هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم أن الشاة تُجزِئُ عَنًِ الرَّجُلِ، وعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ولو كَثُرَ عددُهم، كما قال عطاءُ بن يسار: سألتُ أبا أيوبٍ الأنصارىَّ: (كيف كانت الضَّحايا على عهدِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إنْ كَانَ الرَّجُلُ يُضَحِّى بالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ). قال الترمذى: حديث حسن صحيح. في (الموطأ) أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ العَقِيقَةِ، فقالَ: (لاَ أُحِبُّ العُقُوقَ) كأنه كَرِهَ الاسم، ذكره عن زيد بن أسلم، عن رجل من بنى ضَمْرَةَ، عن أبيه. قال ابن عبد البر: وأحسنُ أسانيده ما ذكره عبد الرزاق: أنبأ داود ابن قيس، قال: سمعتُ عمرو بن شعيب يُحدِّث عن أبيه، عن جده قال: سُئل رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ العَقِيقَةِ، فقال: (لا أُحِبُّ العُقُوقَ) وكَأَنَّهُ كَرِهَ الاسْمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ يَنْسُكُ أَحَدُنَا عَنْ وَلَدِهِ؟ فَقَالَ: (مَنْ أَحَبَّ مِنْكُم أنَ يَنْسُكَ عَنْ وَلَدِهِ، فَلْيَفْعَلْ: عَنِ الغُلاَم شَاتَانِ، وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاة). وصح عنه من حديث عائِشَةَ رضى اللَّه عنها: (عَنِ الغُلام شَاتَانِ، وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاةٌ). وقال: (كُلُّ غُلاَم رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ، ويُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُسَمَّى). قال الإمام أحمد: معناه: أنه محبوسٌ عن الشفاعة في أبويه، والرهن في اللُّغة: الحبس، قال تعالى: وأيضاً فإنَّ هذا إنما يدُلُّ على أنها لازمة لا بُد منها، فشبه لزومَها وعدَمَ انفكاك المولود عنها بالرهن. وقد يَسْتَدِلُّ بهذا مَن يرى وجوبَها كالليث بن سعْد والحسن البصرى، وأهل الظاهر. واللَّه أعلم. فإن قيل: فكيف تصنعون في رواية همَّام عن قتادة في هذا الحديث: (ويُدَمَّى) قال همام: سُئِلَ قتادةُ عن قوله: و (يُدَمَّى) كيف يصنعُ بالدم؟ فقال: إذا ذُبِحَت العقيقةُ، أُخِذَتْ منها صوفة، واستُقبِلَت بها أوداجُها، ثم تُوضعُ على يافوخِ الصَّبىِّ حتى تَسِيلَ على رأسه مثلَ الخيط، ثم يُغسل رأسه بعد ويُحلق. قيل: اختَلَف الناسُ في ذلك، فمِن قائل: هذا من رواية الحسن عن سَمُرَةَ، ولا يَصِحُّ سماعُه عنه، ومِن قائل: سماعُ الحسن عن سَمُرَةَ حديث العقيقة هذا صحيح، صحَّحه التِرمِذىُّ، وغيرُه، وقد ذكره البخارىُّ في (صحيحه) عن حبيب بن الشهيد قال: قال لى محمَّدُ بنُ سيرين: اذهب فَسَلِ الحَسَنَ ممن سمِع حديثَ العقيقة؟ فسأله فقال: سمعته من سَمُرَة. ثم اختُلِفَ في التدميةِ بعدُ: هل هي صحيحة، أو غلط؟ على قولين. فقال أبو داود في (سننه): هي وهم مِن همَّام بن يحيى. وقوله: (ويُدَمَّى)، إنما هو (ويُسَمَّى) وقال غيرُه: كان في لسان هَمَّام لُثْغَةٌ فقال: (ويُدَمَّى) وإنما أراد أن يُسمَّى، وهذا لا يصِح، فإن هماماً وإن كان وَهِمَ في اللفظ، ولم يُقِمْه لِسانُه، فقد حكى عن قتادة صفةَ التدمية، وأنه سئل عنها فأجاب بذلك، وهذا لا تحتمِلُه اللُّغة بوجه، فإن كان لفظُ التدمية هنا وَهْماً، فهو من قتادة، أو من الحسن، والذين أثبتوا لفظَ التدمية قالوا: إنه من سُـنَّة العقيقة، وهذا مروى عن الحسن وقتادة، والذين منعوا التدمية، كمالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، قالوا: (ويُدَمَّى) غلط، وإنما هو: (ويُسمَّى)، قالوا: وهذا كان مِن عملِ أهلِ الجاهلية، فأبطله الإسلامُ، بدليل ما رواه أبو داود، عن بُريدة بنِ الحُصَيْبِ قال: كُنَّا في الجَاهِلِيَّةِ إذَا وُلِدَ لأَحَدِنَا غُلامٌ ذَبَحَ شَاةً وَلَطَّخَ رَأْسَهُ بِدَمِهَا، فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بالإسْلاَم، كُنَّا نَذْبَحُ شَاةً وَنَحْلِقُ رَأْسَهُ وَنُلَطِّخُه بِزَعْفَرَان. قالوا: وَهَذَا وإنْ كَانَ في إسناده الحسين بن واقد، ولا يُحتَجُّ به، فإذا انضاف إلى قولِ النبىَّ صلى الله عليه وسلم: (أَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى) والدم أذى، فكيف يأمرهم أن يلطِّخوه بالأذى؟ قالوا: ومعلومٌ أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنِ الحَسَنِ والحُسَيْنِ بِكَبْشٍ كَبْشٍ، وَلَمْ يُدَمِّهِمَا، ولا كانَ ذلكَ مِنْ هَدْيه، وهَدْىِ أصحابِه، قالوا:وكيفِ يكونُ مِن سُـنَّته تنجيسُ رأسِ المولود، وأين لهذا شاهدٌ ونظيرٌ في سُـنَّته؟؟وإنما يَليقُ هذا بأهلِ الجَاهلية. فإن قيل: عَقُّه عن الحسن والحُسينِ بِكبش كبشٍ، يَدُلُّ على أن هَدْيه أن على الرأسِ رأساً، وقد صحح عبدُ الحق الإشبيلى من حديثِ ابنِ عبَّاس وأنسٍ أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنِ الحَسَنِ بِكَبْشٍ، وعَنِ الحُسينِ بِكَبْشٍ وكَانَ مولدُ الحسن عامَ أُحُدٍ والحسين في العام القابل منه. وروى الترمذىُّ من حديث علىّ رضى اللَّه عنه قال: عَقَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن الحسنِ شاة، وقال: (يا فَاطِمَةُ احْلِقِى رَأْسَهُ، وَتَصَدَّقِى بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً)، فوزنَّاه فَكَانَ وزنُه دِرهماً أوْ بعضَ دِرهمَ، وهذا وإن لم يكن إسناده متصلاً فحديثُ أَنس وابن عباس يكفيان. قالُوا: لأنه نُسُكٌ، فكان على الرأس مثلُه، كالأُضحية ودمِ التمتع. فالجواب أن أحاديثَ الشّاتين عن الذكر، والشاة عن الأُنثى، أولى أن يؤخذ بها لوجوه.. أحدُها: كثرتُها، فإن رواتَها: عائشةُ، وعبدُ اللَّه بن عمرو، وأمَُّ كُرْزِ الكعبية، وأسماءُ. فروى أبو داود عن أمِّ كُرز قالت: سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: (عَنِ الغُلامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الجَارِيةِ شَاةٌ). قال أبو داود: وسمعتُ أحمد يقولُ: مُكافئتانِ: مستويتانِ أو مقاربتان، قلتُ: هو مكَافَأتانِ بفتح الفاء، ومكَافِئَتان بكسرها، والمحدِّثون يختارونَ الفتحَ، قال الزمخشرى: لا فرقَ بين الروايتين، لأن كل مَنْ كافأْته، فقد كافأَك. وروى أيضاً عنها ترفعُه: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: (أَقِرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مَكِنَاتِهَا) وسمعتُه يقول: (عَن الغُلامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاةٌ، لاَ يَضُرُّكُم أذُكْرَاناً كُنَّ أَمْ إنَاثاً)، وعنها أيضاً ترفعه: (عَنِ الغُلامِ شَاتَانِ مِثْلانِ، وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاةٌ)، وقال الترمذى: حديثٌ صحيح. وقد تقدَّم حديثُ عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه في ذلك، وعَنْ عائِشة أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم أَمرَهُم عَنِ الغُلامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الجَاريَةِ شَاةٌ. قال الترمذى: حديث حسن صحيح. وروى إسماعيل بن عَيَّاش، عن ثابتِ بنِ عَجلان، عن مجاهد عن أسماء، عَن النبىِّ صلى الله عليه وسلم قال: (يُعَقُّ عَنِ الغُلامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ وَعَنِ الجَارِيَةِ شَاةٌ). قال مهنا: قلتُ لأحمد: مَن أسماء؟ فقال: ينبغى أن تكون أسماءَ بنتَ أبى بكر. وفى كتاب الخلال: قال مهنا: قلتُ لأحمد: حدثنا خَالِدُ بنُ خِداش، قال: حدثنا عبد اللَّه بن وهب، قال: حدثنا عمرو بن الحارث أن أيوب ابن موسى حدَّثه، أن يزيد بن عبد المزنى حدَّثه، عن أبيه، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: (يُعَقُّ عَنِ الغُلامِ، وَلاَ يُمَسُّ رَأْسُهُ بِدَمٍ)، وقال: (في الإبِلِ الفَرَعُ، وَفى الغَنَمِ الفَرَعُ) فقال أحمد: ما أعرفه، ولا أعرِفُ عبد بن يزيد المزنى، ولا هذا الحديث، فقلتُ له: أتنكره؟ فقال: لا أعرِفه، وقصةُ الحسنِ والحسين رضى اللَّه عنهما حديثُ واحد. الثانى: أنها من فعل النبى صلى الله عليه وسلم، وأحاديثُ الشاتين من قَوله، وقولُه عام، وفِعْلُه يحتمل الاختصاص. الثالث: أنها متضمِّنة لزيادة، فكان الأخذُ بها أولى. الرابع: أن الفعل يدُلُّ على الجواز، والقول على الاستحباب، والأخذُ بهما ممكن، فلا وجه لتعطيل أحدهما. الخامس: أن قصة الذبح عن الحسن والحسين كانت عام أُحُد والعام الذي بعده، وأم كُرز سَمِعَتْ مِن النبى صلى الله عليه وسلم ما روته عام الحُديبية سنة ست بعد الذبح عن الحسن والحسين، قاله النسائى في كتابه الكبير. السادس: أن قِصة الحسنِ والحُسين يحتمِل أن يُراد بها بيان جنسِ المذبوح، وأنه مِن الكِباش لا تخصيصه بالواحد، كما قالت عائشة: ضحَّى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن نسائه بقرة، وكن تِسعاً، ومرادها: الجنس لا التخصيص بالواحدة. السابع: أن اللَّه سُبْحَانَه فضَّل الذَّكَرَ على الأُنثى، كما قال: الثامن: أن العقيقة تُشبه العِتق عن المولود، فإنه رهينٌ بعقيقته، فالعقيقةُ تَفُكُّه وتعتِقه، وكانَ الأولى أن يُعَقَّ عن الذكر بشاتين، وعن الأُنثى بشاة، كما أن عِتق الأُنثيين يقومُ مقام عِتق الذكر. كما في (جامع الترمذى) وغيره عن أبى أُمامة قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: (أيُّمَا امْرىءٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَءاً مُسْلِماً، كَانَ فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، يُجْزِى كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْواً مِنْهُ، وَأيُّمَا امْرِىءٍ مُسْلِمٍ أَعْتَق امْرَأتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، يُجزى كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُمَا عُضْواً مِنْهُ، وأَيُّمَا امْرأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتْ امْرأَةً مُسْلِمَةً كانت فِكَاكَهَا مِنَ النَّارِ، يُجْزى كُلُّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْواً مِنْهَا) وهذا حديث صحيح. ذكر أبو داود في (المراسيل) عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال في العقيقة التي عقَّتْها فاطِمةُ عن الحسن والحسين رضى اللَّه عنهما: (أَنِ ابْعَثُوا إلَى بَيْتِ القَابِلَةِ بِرِجْلٍ وَكُلُوا وَأَطْعِمُوا وَلاَ تَكْسِرُوا مِنْهَا عَظْماً). وذكر ابنُ أيمن مِن حديث أنس رضى اللَّه عنه، أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ جَاءَتْهُ النُّبُوَّةُ، وهذا الحديثُ قال أبو داود في (مسائله): سمعتُ أحمد حدََّّثهم بحديث الهيثم بنِ جميل، عن عبد اللَّه بن المثنى عن ثُمامة عن أنس أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عن نفسه، فقال أحمد: عبد اللَّه بن محرز عن قتادة عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم عَقَّ عن نفسه، قال مهنا: قال أحمد: هذا منكر، وضعَّف عبد اللَّه بن المحرر. ذكر أبو داود عن أبى رافع قال:(رأيتُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم أَذَّنَ في أُذُنِ الحَسَنِ بِنْ عَلِىٍّ حِينَ وَلَدَتْهُ أُمُّه فَاطِمَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا بِالصَّلاةِ). قد تقدَّم قولُه في حديث قتادة عن الحسن، عن سَمُرَةَ في العقيقة: (تُذْبَحُ يَوْمَ سًَابِعِهِ وَيُسَمَّى) قال الميمونى: تذاكرنا لِكَم يُسَمَّى الصبىُّ؟ قال لنا أبو عبد اللَّه: يُروى عن أنس أنه يُسمَّى لثلاثة، وأما سَمُرة، فقال: يُسمَّى في اليوم السابع، فأمّا الخِتَان، فقال ابنُ عبّاس: كانوا لا يختنون الغلام حتى يُدرِكَ، قال الميمونى: سمعتُ أحمد يقول: كان الحسن يكره أن يُختن الصبىُّ يومَ سابعه، وقال حنبل: إن أبا عبد اللَّه قال: وإن خُتِنَ يومَ السابع، فلا بأس، وإنما كره الحسن ذلك لئلا يتشبه باليهود، وليس في هذا شىء. قال مكحول: ختن إبراهيمُ ابنه إسحاق لسبعة أيام، وختن إسماعيل لثلاث عشرة سنة، ذكره الخلال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فصار خِتان إسحاق سُـنَّة في ولده، وخِتان إسماعيل سُـنَّة في ولده، وقد تقدَّم الخلافُ في ختان النبىَّ صلى الله عليه وسلم متى كان ذلك. ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: (إنَّ أَخْنَعَ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الأَمْلاَكِ، لاَ مَلِكَ إلاَّ اللَّهُ). وثبت عنه أنه قال: (أحَبُّ الأسْمَاءِ إلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وهَمَّامٌ، وأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةٌ). وثبت عنه أنه قال: (لا تُسَمِينَّ غُلامَكَ يَسَاراً وَلاَ رَبَاحاً وَلاَ نَجِيحاً وَلاَ أَفْلَحَ، فَإنَّكَ تَقُولُ: أَثَمَّتَ هُوَ؟ فَلاَ يَكُونُ، فَيُقَالُ: لا). وثبت عنه أنه غيَّر اسم عاصية، وقال: (أنتِ جَميلَةٌ). وكان اسم جُوَيْريَةَ: بَرَّةً، فغيَّره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم باسم جُوَيْرِيَة. وقالت زينبُ بنتُ أمِّ سلمة: نهى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يُسَمَّى بِهذا الاسمِ، فَقَالَ: (لاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُم، اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ البِّر مِنْكُم). وغيَّر اسم أَصْرَم بزُرعةَ، وغيَّرَ اسمَ أبى الحَكَم بأبى شُرَيْحٍ. وغيَّرَ اسم حَزْن جدِّ سعيد بن المسيب وجعله سَهلاً فأبَى، وقال (السَّهْلُ يُوطَأ وَيُمْتَهَنُ). قال أبو داود: وغيَّرَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم اسمَ العَاصِ، وعَزِيز، وعَتْلَةَ، وشَيطَان والحَكَم، وغُراب، وحُباب، وشِهاب، فسماه هِشاماً، وسمِّى حرباً سِلْماً، وسمَّى المضطجعَ المنبعِثَ، وأرضاً عَفْرَةً سمَّاها خَضِرَةً، وشِعْبُ الضَّلالَةِ سماه شِعْبَ الهُدى، وبنو الزِّنية سماهم بنى الرِّشدة، وسمَّى بنى مُغوِيَةَ بنى رِشْدَةَ. لما كانت الأسماءُ قوالِبَ للمعانى، ودالَّةً عليها، اقتضتِ الحكمةُ أن يكونَ بينها وبينها ارتباطٌ وتناسبٌ، وأن لا يكون المعنى معها بمنزلة الأجنبى المحضِ الذي لا تعلُّقَ له بها، فإن حِكمة الحكيم تأبى ذلك، والواقِعُ يشهد بِخَلافه، بل للأسماء تأثيرٌ في المسميَات، وَلِلْمُسَمَّيَاتِ تأثُّر عن أسمائها في الحُسن والقبح، والخِفَّة والثِّقَل، واللطافة والكَثَافة، كما قيل: وقلَّما أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ ذَا لَقَبٍ إلاَّ وَمَعْنَاهُ إن فَكَّرتَ في لَقَبِهْ وكان صلى اللَّه عليه وسلم يستحِبُّ الاسم الحسَن، وأمر إذا أَبْرَدُوا إليهِ بَرِيداً أن يَكُونَ حَسَنَ الاسْمِ حَسَنَ الوَجْهِ. وكانَ يأخذ المعانى من أسمائِهَا في المنامِ واليقظة، كما رأى أنه وأصحابَه في دار عُقبة بن رافِع، فأُتُوا بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابَ، فأَوَّله بأن لهم الرفعةَ في الدنيا، والعاقبةَ في الآخرةِ، وأنَّ الدِّينَ الذي قد اختاره اللَّه لهم قد أرطب وطَابَ، وتَـأوَّلَ سُهولة أمرِهم يومَ الحديبية مِن مجيـئ سُهيل بن عمرو إليـه. وندب جماعة إلى حلب شاة، فقام رجلٌ يحلُبها، فقال: (ما اسْمُكَ)؟ قال: مُرَّة، فقال: (اجْلِسْ)، فَقَامَ آخَرُ فقال: (ما اسْمُكَ)؟ قال: أظنه حَرْب، فقال: (اجْلِسْ)، فَقَامَ آخرُ فقال: (ما اسْمُكَ)؟ فقال: يَعِيشُ، فَقَال: (احلُبها). وكان يكره الأمكِنةَ المنكرةَ الأسماء، ويكره العُبُورَ فيها، كمَا مَرَّ في بعضِ غزواته بين جبلين، فسأل عن اسميهما فقالوا: فاضِحٌ ومُخزٍ، فعدلَ عنهما، ولَم يَجُزْ بينهما. ولما كان بين الأسماء والمسميَّاتِ مِن الارتباط والتناسُبِ والقرابةِ، ما بين قوالب الأشياءِ وحقائِقها، وما بينَ الأرواحِ والأجسامِ، عَبَرَ العَقْلُ مِن كل منهما إلى الآخر، كما كان إياسُ بن معاوية وغيرُه يرى الشخصَ، فيقولُ: ينبغى أن يكونَ اسمُه كَيْتَ وكَيْتَ، فلا يكاد يُخطىءُ، وضِدُّ هذا العبور من الاسم إلى مسماه، كما سأل عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه رجلاً عن اسمه، فقال: جَمْرَةُ، فقال: واسمُ أبيك؟ قال: شِهَابٌ، قال: مِمَّن؟ قال: مِنَ الحُرَقَةِ، قال: فمنزلُك؟ قال: بِحرَّة النَّار، قال: فأينَ مسكنُكَ؟ قال: بِذَاتِ لَظَى. قال: اذهَبْ فقد احترق مسكنك، فذهب فوجد الأمرَ كذلك، فَعَبَرَ عمر من الألفاظ إلى أرواحها ومعانيها، كما عَبَرَ النبى صلى الله عليه وسلم من اسم سُهيل إلى سهولة أمرهم يَوْم الحُديبية، فكان الأمرُ كذلك، وقد أمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّته بتحسين أسمائهم، وأخبر أنهم يُدعَوْنَ يومَ القِيَامَةِ بها، وفى هذا - واللَّه أعلم - تنبيهٌ على تحسين الأفعال المناسبة لتحسين الأسماء، لتكون الدعوة على رؤوس الأشهاد بالاسم الحسنِ، والوصفِ المناسِبِ له. وتأمل كيف اشتُقَّ للنبىِّ صلى الله عليه وسلم مِن وصفه اسمان مطابقان لمعناه، وهما أحمد ومحمَّد، فهو لكثرة ما فيه من الصفات المحمودة محمَّد، ولِشرفها وفضلها على صفات غيره أحمد، فارتبط الاسمُ بالمسمى ارتباطَ الروحِ بالجسد، وكذلك تكنيتُه صلى اللَّه عليه وسلم لأبى الحكم بن هشام بأبى جهل كنية مطابقة لوصفه ومعناه، وهو أحقُّ الخَلْقِ بهذه الكُنية، وكذلِك تكنيةُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ لعبد العُزَّى بأبى لهب، لما كان مصيره إلى نار ذاتِ لهب، كانت هذه الكُنية أليقَ به وأوفقَ، وهو بها أحقُّ وأخلقُ. ولما قَدِمَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم المدينة، واسمها يَثْرِبُ لا تُعرف بغير هذا الاسم، غيَّره بـ (طيبة) لـمَّا زال عنها ما في لفظ يثرِب من التثريب بما في معنى طَيبة من الطِّيب، استحقت هذا الاسم، وازدادت به طيباً آخر، فأثَّر طِيبُها في استحقاق الاسم، وزادها طِيباَ إلى طيبها. ولما كان الاسمُ الحسنُ يقتضى مسمَّاه، ويستدعيه من قرب، قال النبى صلى الله عليه وسلم لبعض قبائل العرب وهو يدعوهم إلى اللَّه وتوحيده: (يَابَنى عَبْد اللَّهِ، إنَّ اللَّهَ قَدْ حَسَّنَ اسْمَكُم واسْمَ أَبِيكُم) فانظر كيف دعاهم إلى عبودية اللَّه بحسن اسم أبيهم، وبما فيه من المعنى المقتضى للدعوة، وتأمل أسماءَ الستة المتبارِزين يومَ بدر كيف اقتضى القَدَرُ مطابقة أسمائهم لأحوالهم يومئذ، فكان الكفارُ: شيبة، وعُتبةَ، والوليدَ، ثلاثة أسماء من الضعف، فالوليدُ له بداية الضعف، وشيبة له نهاية الضعف، كما قال تعالى: ولما كان كلُّ عبد متحركاً بالإرادة، والهمُّ مبدأُ الإرادة، ويترتب على إرادته حركتُه وكسبُه، كان أصدقَ الأسماء اسمُ همَّام واسمُ حارث، إذ لا ينفكُّ مسماهما عن حقيقة معناهما، ولما كان المُلْكُ الحقُّ لِلَّهِ وحده، ولا ملك على الحقيقة سواه، كان أخنع اسم وأوضَعه عند اللَّه، وأغضَبه له سمُ (شاهان شاه) أى: ملكُ الملوك، وسلطانُ السلاطين، فإن ذلك ليس لأحد غير اللَّه، فتسميةُ غيره بهذا من أبطل الباطل، واللَّه لا يُحب الباطلَ. وقد ألحقَ بعض أهل العلم بهذا: (قاضى القضاة) وقال: ليس قاضى القضاة إلا مَن يقضى الحقّ وهو خيرُ الفاصلين، الذي إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون. ويلى هذا الاسم في الكراهة والقبح والكذب: سيِّدُ الناس، وسيِّدُ الكل، وليس ذلك إلا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خاصة، كما قال: (أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ) فلا يجوز لأحد قطُّ أن يقول عن غيره: إنَّه سيِّدُ الناس وسيِّدُ الكل، كما لا يجوز أن يقول: إنَّه سيِّد ولدِ آدم. ولما كان مسمى الحربِ والمُرَّة أكرَه شئ للنفوس وأقبَحَها عندها، كان أقبحُ الأسماء حرباً ومُرَّة، وعلى قياس هذا حنظلة وحَزْن، وما أشبههما، وما أجدرَ هذه الأسماء بتأثيرها في مسمياتها، كما أثَّر اسم (حَزْن) الحزونة في سعيد بن المسيِّب وأهلِ بيته. ولما كان الأنبياءُ ساداتِ بنى آدم، وأخلاقُهم أشرفَ الأخلاق، وأعمالُهم أَصَحَّ الأعمال، كانت أسماؤهم أشرفَ الأسماء، فندب النبىُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّته إلى التسمى بأسمائهم، كما في سنن أبى داود والنسائى عنه: (تَسَمَّوْا بأَسْمَاءِ الأنْبِيَاءِ) ولو لم يكن في ذلك من المصالح إلا أن الاسمَ يُذَكِّرُ بمسمَّّاه، ويقتضى التعلُّقَ بمعناه، لكفى به مصلحةً مع ما في ذلك من حفظ أسماء الأنبياء وذِكرها، وأن لا تُنسى، وأن تُذكِّر أسماؤُهم بأوصافهم وأحوالهم. وأما النهى عن تسمية الغلام بـ: يسار وأفلحَ ونجيح ورباح، فهذا لمعنى آخر قد أشار إليه في الحديث، وهو قوله: (فإنك تقولُ: أَثَمَّتَ هو؟ فيُقال: لا) - واللَّه أعلم - هل هذه الزيادة من تمام الحديث المرفوع، أو مدرجةٌ من قول الصحابى، وبكل حال فإن هذه الأسماء لما كانت قد تُوجب تطيُّراً تكرَهه النفوس، ويَصُدُّها عما هي بصدده، كما إذا قلت لرجل: أعندك يَسار، أو رَبَاح، أو أفلَح؟ قال: لا، تطيَّرت أنْتَ وهو مِن ذلك، وقد تقع الطِّيَرةُ لا سيما على المتطيِّرين، فقلَّ مَن تطيَّر إلا ووقعت به طِيرَتُه، وأصابه طائرُه، كما قيل: تَعَلَّمْ أنَّه لاَ طَيْرَ إلاَّ عَلَى مُتَطَيِّرٍ فَهُو الثُّبُورُ اقتضت حكمةُ الشارع، الرءوف بأُمَّته، الرحيمِ بهم، أن يمنعَهم من أسبابٍ تُوجب لهم سماعَ المكروه أو وقوعَه، وأن يعدل عنها إلى أسماء تُحَصِّلُ المقصودَ من غير مفسدة، هذا أولى، مع ما ينضاف إلى ذلك من تعليق ضد الاسم عليه، بأن يُسمى يساراً مَن هو مِن أعسر الناس، ونجيحاً مَن لا نجاح عنده، ورَبَاحاً مَن هو من الخاسرين، فيكون قد وقع في الكذب عليه وعلى اللَّه، وأمر آخر أيضاً وهو أن يُطالَب المسمَّى بمقتضى اسمه، فلا يُوجد عنده، فيجعل ذلك سبباً لذمِّة وسبِّه، كما قيل: أنتَ الذي كَــوْنُه فَسَاداً ** في عَالَمِ الكَوْنِ والفَسَـاد فتوصل الشاعر بهذا الاسم إلى ذم المسمَّى به، ولى من أبيات: وَظَــنَّ بأنَّ اسْمَهُ سَاتِــرٌ ** لأوْصَافِهِ فَغَـدَا شَــاهِراً وهذا كما أن من المدح ما يكون ذماً وموجِباً لسقوط مرتبة الممدوح عند الناس، فإنه يُمدح بما ليس فيه، فتُطالبه النفوسُ بما مُدِحَ به، وتظنّه عنده، فلا تجدهُ كذلك، فتنقلِبُ ذَمّاً، ولو تُرِكَ بغير مدح، لم تحصُلْ له هذه المفسدة، ويُشبه حاله حال مَن ولى وِلاية سيئة، ثم عُزِلَ عنها، فإنه تَنْقُصُ مرتبتُه عما كان عليه قبل الولاية، وينقُصُ في نفوس الناس عما كان عليه قبلها، وفى هذا قال القائل: فَإنَّْكَ إنْ تَغْلُ تَغْلُ الظُّنُو ** نُ فـيهِ إلـى الأمَدِ الأَبْعَدِ
فَيَنْقُـصُ مِنْ حَيْثُ عَظَّمْتَه ** لِفَضْلِ المَـغِيبِ عَنِ المَشْهَدِ وأمر آخر: وهو ظنُّ المسمى واعتقادُه في نفسه أنه كذلك، فيقعُ في تزكية نفسه وتعظيمها وترفُّعِهَا على غيره، وهذا هو المعنى الذي نهى النبىُّ صلى الله عليه وسلم لأجله أن تُسمى (بَرَّة) وقال: (لا تُزَكُّوا أنْفُسَكُم، اللَّه أعْلَمُ بِأَهْلِ البِرِّ مِنْكُم). وعلى هذا فتُكره التسمية بـ: التَّقى، والمتَّقى، والمُطيعِ، والطائع، والراضى، والمُحسن، والمخلِص، والمنيب، والرشيدِ، والسديد. وأما تسميةُ الكفار بذلك، فلا يجوز التمكينُ منه، ولا دُعاؤُهُم بشئٍ من هذه الأسماء، ولا الإخبارُ عنهم بها، واللَّه عَزَّ وجَلَّ يغضَب مِن تسميتهم بذلك. وأما الكُنْية فهى نوعُ تكريم لِلمَكْنِّى وتنويهٌ به كما قال الشاعر: وكنَّى النبى صلى الله عليه وسلم صُهيباً بأبى يحيى، وكًَنَّى علياً رضى اللَّه عنه بأبى تراب إلى كنيته بأبى الحسن، وكانت أحبَّ كنيته إليه، وكنَّى أخا أنسِ بن مالك وكان صغيراً دون البلوغ بأبى عُمير. وكان هَدْيُه صلى اللَّه عليه وسلم تكنيةَ مَن له ولد، ومَن لا ولد له، ولم يثبُت عنه أنه نهى عن كُنية إلا الكنية بأبى القاسم، فصح عنه أنه قال: (تسمَّوْا بِاسْمِى وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيتِى) فاختلف الناسُ في ذلك على أربعة أقوال: أحدها: أنه لا يجوزُ التَّكَنِّى بكُنيته مطلقاً، سواء أفردها عن اسمه، أو قرنها به، وسواء محياه وبعدَ مماته، وعمدتُهم عمومُ هذا الحديث الصحيح وإطلاقُه، وحكى البيهقى ذلك عن الشافعى، قالوا: لأن النهى إنما كان لأَنَّ معنى هذه الكُنية والتسمية مختصةٌ به صلى اللَّه عليه وسلم، وقد أشار إلى ذلك بقوله: (واللَّهِ لاَ أُعْطِى أَحَداً، وَلاَ أَمْنَعُ أحَداً، وَإنَّمَا أنَا قَاسِمٌ، أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ) قالوا: ومعلوم أن هذه الصفة ليست على الكمال لغيره، واختلف هؤلاء في جواز تسمية المولود بقاسم، فأجازه طائفة، ومنعه آخرون، والمجيزون نظروا إلى أنَّ العِلَّة عدمُ مشاركة النبى صلى الله عليه وسلم فيما اختصَّ به من الكُنية، وهذا غيرُ موجود في الاسم، والمانعون نظروا إلى أن المعنى الذي نهى عنه في الكُنية موجود مثله هنا في الاسم سواء، أو هو أولى بالمنع، قالوا: وفى قوله: (إنما أنا قاسم) إشعار بهذا الاختصاص. القول الثانى: أن النهى إنما هو عن الجمع بين اسمه وكُنيته، فإذا أُفِرد أحدُهما عن الآخر، فلا بأس. قال أبو داود: باب مَن رأى أن لا يجمع بينهما، ثم ذكر حديث أبى الزبير عن جابر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (مَن تسمَّى باسمى فلا يَتَكَنَّ بكُنيتى، ومَن تكنَّى بكُنيتى فلا يتسَمَّ باسمى) ورواه الترمذى وقال: حديث حسن غريب، وقد رواه الترمذى أيضاً من حديث محمد ابن عجلان عن أبيه عن أبى هريرة وقال: حسن صحيح، ولفظه: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن يَجْمَعَ أحَدٌ بَيْنَ اسمِهِ وكُنيته، ويُسمِّى مُحمَداً أبا القاسم. قال أصحابُ هذا القول: فهذا مقيِّد مفسِّر لما في (الصحيحين) من نهيه عن التكنى بكُنيته، قالوا: ولأن في الجمع بينهما مشاركةً في الاختصاص بالاسم والكُنية، فإذا أُفْرِدَ أحدُهما عن الآخر، زال الاختصاص. القول الثالث: جوازُ الجمع بينهما وهو المنقولُ عن مالك، واحتجَّ أصحابُ هذا القول بما رواه أبو داود، والترمذى من حديث محمد ابن الحنفية، عن علىّ رضى اللَّه عنه قال: قلت: يا رسولَ اللَّه ؛ إنْ وُلِدَ لى وَلَدٌ مِنْ بَعْدِكَ أُسَمِّيهِ بِاسْمِكَ وَأَكْنِيةِ بِكُنْيَتِكَ؟ قال: (نعم) قال الترمذى: حديث حسن صحيح. وفى سنن أبى داود عن عائشة قالت: جاءت امرأة، إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رَسُولَ اللَّه ؛ إنى وَلَدْتُ غُلاماً فسميتُه محمداً وكنًَّيته أبا القاسم، فذُكِرَ لى أنك تكره ذلك؟ فقال: (ما الذي أحَلَّ اسْمِى وَحَرَّمَ كُنْيَتِى)، أو (مَا الذي حَرَّمَ كُنْيَتِى وَأَحَلَّ اسْمِى)؟ قال هؤلاء: وأحاديث المنع منسوخة بهذين الحديثين. القول الرابع: أن التكنى بأبى القاسم كان ممنوعاً منه في حياة النبى صلى الله عليه وسلم، وهو جائز بعد وفاته، قالوا: وسببُ النَّهى إنَّما كان مختصاً بحياته، فإنه قد ثبت في (الصحيح) من حديث أنس قال: نادى رجل بالبَقيع: يا أبا القاسم، فالتفتَ إليه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللَّه إنى لَمْ أَعْنِكَ، إنما دعوتُ فلاناً، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (تسمَّوْا باسْمِى وَلا تَكنَّوا بكُنيتى) قالوا: وحديثُ علىّ فيه إشارة إلى ذلك بقوله: إن وُلِدَ مِنْ بعدك وَلَدٌ، ولم يسأله عمن يولد له في حياته، ولكن قال علىّ رضى اللَّه عنه في هذا الحديث،: (وكانت رخصة لى) وقد شذَّ مَن لا يُؤبَه لقوله، فمنع التسمية باسمه صلى اللَّه عليه وسلم قياساً على النهى عن التكَّنى بكُنيته، والصواب أن التسمى باسمه جائز، والتكنى بكُنيته ممنوع منه، والمنع في حياته أشدُّ، والجمعُ بينهما ممنوع منه، وحديثُ عائشة غريب لا يُعارَض بمثله الحديث الصحيح، وحديث علىّ رضى اللَّه عنه في صحته نظر، والترمذى فيه نوع تساهل في التصحيح، وقد قال علىّ: إنها رخصة له، وهذا يدل على بقاء المنع لمن سواه، واللَّه أعلم. وقد كره قومٌ من السَلَف والخَلَف الكنيةَ بأبى عيسى، وأجازها آخرون، فروى أبو داود عن زيد بن أسلم أن عُمَرَ بنَ الخطاب ضرب ابناً له يُكنى أبا عيسى، وأن المغيرةَ بنَ شعبة تكنَّى بأبى عيسى، فقال له عمر: أما يكفيك أن تُكْنَى بأبى عبد اللَّه؟ فقال: إنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كنَّانى، فقال: إن رسولَ اللَّه قَد غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وما تأخر، وإنَّا لفى جَلْجَتِنَا فلم يَزَل يُكنَّى بأبى عبد اللَّه حتى هَلَكَ. وقد كنَّى عائشة بأُمِّ عَبْدِ اللَّه، وكان لنسائه أيضاً كُنَى كأُمِّ حبيبة، وأُمّ سلمة. ونهى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن تسمية العِنَبِ كَرْماً وقال: (الكَرْمُ قَلْبُ المُؤمِنِ) وهذا لأن هذه اللفظةَ تَدُلُّ على كثرة الخير والمنافع في المسمَّى بها، وقلبُ المؤمن هو المستحِقُّ لذلك دون شجرة العِنَب، ولكن: هل المرادُ النهىُ عن تخصيصِ شجرة العِنب بهذا الاسم، وأن قلب المؤمن أولى به منه، فلا يُمنع من تسميته بالكَرْم كما قال في (المِسكين) و (الرَّقُوب) و (المُفلِسِ)؟ أو المرادُ أنَّ تسميته بهذا مع اتخاذ الخمرِ المحرَّم منه وصف بالكرم والخير والمنافع لأصل هذا الشراب الخبيثِ المحرَّمِِ، وذلك ذريعةٌ إلى مدح ما حرَّم اللَّه وتهييجِ النفوس إليه؟ هذا محتمل، واللَّه أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم، والأولى أن لا يُسمى شجرُ العنب كَرْماً. قال صلى اللَّه عليه وسلم: (لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأعْرَابُ عَلَى اسم صَلاتِكُم، أَلاَ وَإنَّهَا العِشَاءُ، وَإنَّهُمْ يُسَمُّونَهَا العَتَمَةَ)، وصح عنه أنه قال: (لَوْ يَعْلَمُونَ مَا في العَتَمَةِ والصُّبْحِ، لأَتَوْهُمَا وَلَو حَبْواً) فقيل: هذا ناسخ للمنع، وقيل بالعكس، والصواب خلافُ القولين، فإن العلم بالتاريخ متعذِّر، ولا تعارُضَ بين الحديثين، فإنه لم يَنْهَ عن إطلاق اسم العتمة بالكُلِّية، وإنما نهى عن أن يُهْجَرَ اسمُ العِشَاء، وهو الاسمُ الذي سمَّاها اللَّه به في كتابه، ويَغْلِبَ عليها اسمُ العَتَمَةِ، فإذا سُميت العِشَاءَ وأُطلق عليها أحياناً العتمة، فلا بأس، واللَّه أعلم. وهذا محافظة منه صلى اللَّه عليه وسلم على الأسماء التي سمَّى الله بها العبادات، فلا تُهجر، ويؤثر عليها غيرُها، كما فعله المتأخرون في هجران ألفاظ النصوص، وإيثار المصطلحات الحادثة عليها، ونشأ بسبب هذا من الجهل والفساد ما اللَّهُ به عليم، وهذا كما كان يُحافظ على تقديم ما قدَّمه اللَّه ُ وتأخيرِ ما أخرَّه، كما بدأ بالصفا، وقال: (أَبْدَأ بمَا بَدَأ اللَّهُ بِهِ) وبدأ في العيد بالصلاة. ثم جعل النَّحْرَ بعدها، وأخبر أن: (مَنْ ذَبَحَ قَبْلَهَا، فَلا نُسَكَ لَهُ) تقديماً لما بدأ اللَّهُ به في قوله: كان يتخيَّر في خِطابه، ويختارُ لأُمته أحسنَ الألفَاظ، وأجملها، وألطفها، وأبعَدها من ألفاظ أهلِ الجفاء والغِلظة والفُحش، فلم يكن فاحشاً ولا متفحِّشاً ولا صَخَّاباً ولا فَظَّاً. وكان يكرهُ أن يُسْتَعْمَلَ اللفظُ الشريفُ المصونُ في حقِّ مَنْ ليس كذلك، وأن يُسْتَعمل اللفظُ المَهينُ المكروه في حقِّ مَن ليس مِن أهله. فمِن الأول منعهُ أن يُقال للمنافق: (يا سيدنا) وقال: (فإنَّه إنْ يكُ سَيِّداً فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُم عَزَّ وَجَلَّ)، ومنعُه أن تُسمى شجرةُ العِنب كَرْماً، ومنعُه تسمية أبى جهل بأبى الحَكَم، وكذلك تغييره لاسم أبى الحكم من الصحابة: بأبى شريح، وقال: (إنَّ اللَّه هو الحكم، وإليه الحكمُ). ومِن ذلك نهيُه للمملوك أن يقول لسيِّده أو لسيدته: ربِّى وَرَبَّتِى، وللسَّـيِّدِ أن يقول لمملوكِهِ: عَبْدِى، ولَكِن يَقُولُ المالِكُ: فَتَاىَ وفَتَاتِى، ويَقُولُ المملوكُ: سيِّدى وسيِّدتى، وقال لمن ادَّعى أنه طبيب: (أنْتَ رجلٌ رَفِيقٌ، وَطَبِيبُها الذي خَلَقَهَا)، والجاهِلون يُسمُّون الكافرَ الذي له عِلْمٌ بشئ من الطبيعة حكيماً، وهو مِن أسفه الخلق. ومن هذا قولُه للخطيب الذي قال: مَنْ يُطع اللَّهَ وَرَسُولَه فَقَدْ رَشَدَ، ومَنْ يَعْصِهِمَا فَقَد غَوَى: (بئسَ الخَطِيبُ أنْتَ). ومن ذلك قولُه: (لاَ تَقُولُوا: مَاشَاءَ اللَّهُ وشَاءَ فُلانٌ، وَلَكِن قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ مَا شَاءَ فُلاَنٌ)، وقال له رجل: ما شَاءَ اللَّهُ وشِئْتَ، فَقَالَ: (أَجَعلْتَنِى لِلَّهِ نِدَّاً؟ قُل: مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ). وفى معنى هذا الشرك المنهى عنه قولُ مَن لا يتوقَّى الشرك: أنا باللَّهِ وَبِكَ، وأنا في حَسْبِ اللَّهِ وحَسْبِكَ، وما لى إلا اللَّهُ وأنتَ، وأنا متوكِّل على اللَّه وعليك، وهذا من اللَّهِ ومِنك، واللَّهُ لى في السماء وأنت لى في الأرض، وواللَّهِ وحياتِك، وأمثال هذا من الألفاظ التي يجعل فيها قائِلُهَا المخلوقَ نِدّاً للخالق، وهى أشدُّ منعاً وقُبْحاً من قوله: ما شَاءَ اللَّهُ وشئتَ. فأما إذا قال: أنا باللَّهِ، ثم بك، وما شاء اللَّهُ، ثم شئتَ، فلا بأس بذلك، كما في حديث الثلاثة: (لاَ بَلاَغَ لِىَ اليَوْمَ إلا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ)، وكما في الحديث المتقدِّم الإذن أن يقال: ما شاء اللَّهُ ثم شاءَ فلان. وأما القِسْمُ الثانى وهو أن تُطلق ألفاظُ الذمِّ على مَن ليس مِن أهلها، فمثلُ نهيه صلى اللَّه عليه وسلم عن سبِّ الدهرِ، وقال: (إنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ)، وفى حديث آخر: (يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُؤْذِينى ابْنُ آدَمَ فَيَسُبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهْرُ، بِيَدِى الأَمْرُ أَقلِّبُ اللَّيلَ والنَّهَارَ)، وفى حديث آخر (لا يَقُولَنَّ أحَدُكُم: يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ). في هذا ثلاثُ مفاسد عظيمة. إحداها: سَبُّه مَنْ ليس بأهلٍ أن يُسَب، فإن الدهرَ خَلْقٌ مُسَخَّرٌ مِن خلق اللَّه، منقادٌ لأمره، مذلَّلٌ لتسخيره، فسابُّه أولى بالذمِّ والسبِّ منه. الثانية: أن سبَّه متضمِّن للشرك، فإنه إنما سبَّه لظنَّه أنه يضرُّ وينفع، وأنه مع ذلك ظالم قد ضرَّ مَن لا يستحق الضرر، وأعطى مَن لا يستحقُّ العطَاءَ، ورفع مَن لا يستحقُّ الرِّفعة، وحرم مَن لا يستحِقُ الحِرمان، وهو عند شاتميه من أظلم الظلمة، وأشعارُ هؤلاء الظلمة الخونة في سبِّه كثيرةٌ جداً، وكثيرٌ من الجُهَّال يُصرِّح بلعنه وتقبيحِه. الثالثة: أن السبَّ منهم إنما يقعُ على مَن فعل هذه الأفعال التي لو اتَّبَعَ الحقُّ فيها أهواءَهم لفسدتِ السماواتُ والأرض، وإذا وقعت أهواؤُهم، حَمِدُوا الدهرَ، وأَثْنَوْا عليه. وفى حقيقةِ الأمر، فَربُّ الدهر تعالى هو المعطى المانِعُ، الخافِضُ الرافعُ، المعزُّ المذِلُّ، والدهرُ ليس له من الأمر شئ، فمسبَّتهم للدهر مسبَّة للَّه عَزَّ وجَلَّ، ولهذا كانت مؤذيَةً للربِّ تعالَى، كما في (الصحيحين) من حديث أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (قالَ اللَّه تَعالَى: يُؤْذِينى ابْنُ آدَمَ ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ وأَنَا الدَّهْرُ)، فسابُّ الدهر دائر بين أمرين لا بد له من أحدهما. إما سبُّه لِلَّهِ، أو الشِّركُ به، فإنه إذا اعتقد أن الدهر فاعل مع اللَّه فهو مشرك، وإن اعتقد أن اللَّه وحده هو الذي فعل ذلك وهو يسبُّ مَن فعله، فقد سبَّ اللَّه. ومن هذا قولُه صلى اللَّه عليه وسلم: (لاَ يَقُولَنَّ أحَدُكُم: تَعِسَ الشَّيْطَانُ فَإنَّهُ يَتَعَاظَمُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ البَيْتِ، فَيَقُولُ: بِقُوَّتِى صَرَعْتُهُ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: بسْمِ اللَّهِ، فَإنَّهُ يَتَصَاغَرُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبَابِ). وفى حديث آخر: (إنَّ العَبْدَ إذَا لَعَنَ الشَّيْطَانَ يَقُولُ: إنَّكَ لَتَلْعَنُ مُلَعَّناً). ومثل هذا قولُ القائل: أخزى اللَّه الشيطان، وقبَّح اللَّهُ الشيطان، فإن ذلك كله يفرحه ويقول علم ابن آدم أنى قد نلته بقوتى ، وذلك مما يعينه على إغوائه ، ولا يفيده شيئاً ، فأرشد النبى صلى الله عليه وسلم من مسه شىء من الشيطان أن يذكر الله تعالى ، ويذكر اسمه ، ويستعيذ بالله منه ، فإن ذلك أنفع له ، وأغيظ للشيطان مِن ذلك: نهيُه صلى اللَّه عليه وسلم أن يقولَ الرجل: (خَبُثَتْ نَفْسِى، ولَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِى) ومعناهما واحد: أى: غَثَتْ نفسى، وساء خُلُقُها، فكره لهم لفظَ الخُبث لما فيه من القُبح والشنَاعة، وأرشدهم إلى استعمال الحسن، وهجران القبيح، وإبدالِ اللفظ المكروه بأحسن منه. ومِن ذلك نهيه صلى اللَّه عليه وسلم عن قول القائل بعد فواتِ الأمر: (لَو أنِّى فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا) وقال: (إنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ) وأرشده إلى ما هو أنفعُ له من هذه الكلمة، وهو أن يقول: (قَدَّرَ اللَّهُ ومَا شَاءَ فَعَلَ) وذلك لأن قوله: لو كنتُ فعلتُ كذا وكذا، لم يَفُتْنِى ما فاتنى، أو لم أقع فيما وقعتُ فيه، كلامٌ لا يُجدى عليه فائدةً البتة، فإنه غيرُ مستقبِل لما استدبر من أمره، وغيرُ مستقِيل عَثْرَتَه بـ (لو)، وفى ضمن (لو) ادعاء أن الأمر لو كان كما قدَّره في نفسه، لكان غيرَ ما قضاه اللَّه وقدَّرَه وشاءه، فإنَّ ما وقع مما يتمنَّى خلافَه إنما وقع بقضاء اللَّه وقَدَرِه ومشيئته، فإذا قال: لو أنى فعلتُ كذا، لكان خلافَ ما وقع فهو مُحال، إذ خلافُ المقدَّر المقْضىِّ مُحال، فقد تضمَّن كلامُه كذباً وجهلاً ومُحالاً، وإن سَلِمَ من التكذيب بالقَدَر، لم يَسْلَم مِن معارضته بقوله: لو أنى فعلتُ كذا، لدفعتُ ما قَدَّر اللَّهُ علىَّ. فإن قيل: ليس في هذا ردٌ للقَدَر ولا جَحدٌ له، إذ تلك الأسبابُ التي تمنَّاها أيضاً مِن القَدَر، فهو يقول: لو وقفتُ لهذا القَدَر، لاندفع به عنِّى ذلك القَدَرُ، فإن القَدَرَ يُدفع بعضُه ببعض، كما يُدفع قَدَرُ المرضِ بالدواءِ، وقدرُ الذنوب بالتوبةِ، وقدرُ العدوِّ بالجهاد، فكلاهما من القَدَر. قيل: هذا حقّ، ولكن هذا ينفعُ قبل وقوعِ القَدَر المكروه، وأما إذا وقع، فلا سبيلَ إلى دفعه، وإن كان له سبيلٌ إلى دفعه أو تخفيفه بقَدَر آخر، فهو أولى به من قوله: لو كنتُ فعلته، بل وظيفتُه في هذه الحالة أن يستقبلَ فعلَه الذي يدفع به أو يخفف أثرَ ما وقع، ولا يتمنَّى ما لا مطمع في وقوعه، فإنه عجزٌ محضٌ، واللَّه يلومُ على العجز، ويُحب الكَيْسَ، ويأمر به، والكَيْسُ: هو مباشرةُ الأسباب التي ربطَ اللَّهُ بها مُسِّبباتِها النافعة للعبد في معاشه ومعاده، فهذه تفتحُ عمل الخيرِ، وأما العجزُ، فإنه يفتحُ عملَ الشيطان، فإنه إذا عَجَزَ عما ينفعُه، وصار إلى الأمانى الباطِلة بقوله: لَوْ كَانَ كَذَا وكَذَا، ولو فعلتُ كَذَا، يُفتح عليه عمل الشيطان، فإن بابَه العجزُ والكسل، ولهذا استعاذ النبىُّ صلى الله عليه وسلم منهما، وهما مفتاحُ كلِّ شر، ويصدر عنهما الهمُّ، والحَزَنُ، والجُبْنُ، والبُخْلُ، وَضَلَعُ الدَّيْنِ، وغَلَبَةُ الرِّجَالِ، فمصدرُها كُلها عن العجز والكسل، وعنوانها (لو)، فلذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم: (فإن (لو) تفتحُ عمل الشيطان) فالمتمنِّى مِن أعجز الناس وأفلسهم، فإن التمنى رأسُ أموال المفاليسِ، والعجزُ مفتاح كُلِّ شر. وأصل المعاصى كُلها العجزُ، فإن العبدَ يَعجِز عن أسباب أعمالِ الطاعات، وعن الأسباب التي تُبْعِدُه عن المعاصى، وتحول بينه وبينها، فيقعُ في المعاصى، فجمع هذا الحديثُ الشريف في استعاذته - صلى اللَّه عليه وسلم - أُصولَ الشر وفروعه، ومبادِيَه وغاياتِه، وموارِدَه ومصادرَه، وهو مشتمل على ثمانى خصال، كُلُّ خصلتين منها قرينتان فقال: (أعُوذُ بِكَ مِنَ الهمِّ والحَزَنِ) وهما قرينان، فإن المكروه الوارد على القلب ينقسِمُ باعتبار سببه إلى قمسين، فإنه إما أن يكون سببُه أمراً ماضياً، فهو يُحدِثُ الحَزَنَ، وإما أن يكون توقع أمر مستقبل، فهو يُحدِث الهم، وكلاهما مِن العجز، فإن ما مضى لا يُدفع بالحزن، بل بالرضى، والحمد، والصبر، والإيمان بالقَدَر، وقول العبد: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، وما يُستقبل لا يُدفع أيضاً بالهمِّ، بل إما أن يكون له حيلة في دفعه، فلا يعجز عنه، وإما أن لا تكون له حيلة في دفعه، فلا يجزع منه، ويلبسُ له لباسه، ويأخذُ له عُدته، ويتأهّبُ له أُهبته اللائقة به، ويَسْتَجِنُّ بجُنَّةٍ حصينة من التوحيد، والتوكل، والانطراح بين يدى الرب تعالى والاستسلام له والرضى به رباً في كل شئ، ولا يرضى به رباً فيما يحب دون ما يكره، فإذا كان هكذا، لم يرضَ به رباً على الإطلاق، فلا يرضاه الرب له عبداً على الإطلاق، فالهمُّ والحَزَنُ لا ينفَعَانِ العبد البتة، بل مضرَّتُهما أكثرُ من منفعتهما، فإنهما يُضعفان العزم، ويُوهنان القلبَ، ويحولان بينَ العبدِ وبين الاجتهاد فيما ينفعُه، ويقطعان عليه طريقَ السير، أو يُنكسانه إلى وراء، أو يَعوقَانِهِ ويَقِفَانه، أو يَحْجُبانه عن العَلَمِ الذي كلَّما رآهُ، شمَّر إليه، وجدَّ في سيره، فهما حِمل ثقيل على ظهر السائر، بل إن عاقه الهمُّ والحزن عن شهواته وإراداته التي تضرُّهُ في معاشه ومعاده، انتفع به من هذا الوجه، وهذا من حكمة العزيز الحكيم أن سلَّط هذَيْن الجندَيْنِ على القلوب المعرضة عنه، الفارغَةِ من محبته، وخوفه، ورجائه، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والأُنسِ به، والفِرار إليه، والانقطاع إليه، ليردَّهَا بما يبتليها به من الهموم والغمومِ، والأحزانِ والآلام القلبية عن كثير من معاصيها وشهواتها المُرْدِية، وهذه القلوبُ في سجن من الجحيم في هذه الدار، وإن أريد بها الخيرُ، كان حظُّها من سجن الجحيم في معادها، ولا تزال في هذا السجن حتى تتخلَّص إلى فضاء التوحيد، والإقبال على اللَّه، والأُنس به، وجعل محبته في محل دبيبِ خواطِر القلب ووساوسه، بحيث يكون ذِكْرُه تعالى وحُبُّه وخوفُه ورجاؤُه والفرحُ به والابتهاجُ بذكره، هو المستولى على القلب، الغالبَ عليه، الذي متى فقده، فقد قُوتَهُ الذي لا قِوام له إلا به، ولا بقاء له بدونه، ولا سبيلَ إلى خلاصِ القلب من هذه الآلام التي هي أعظمُ أمراضِه وأفسدُها له إلا بذلك، ولا بلاغَ إلا باللَّه وحدَه، فإنه لا يُوصِل إليه إلا هو، ولا يأتى بالحسنات إلا هو، ولا يَصرِف السيئات إلا هو، ولا يدُلُّ عليه إلا هو، وإذا أرادَ عَبْدَه لأمر، هيَْأَهُ له، فمنه الإيجاد، ومنه الإعداد، ومنه الإمداد، وإذا أقامه في مقام أىِّ مقام كان، فبحمده أقامه فيه وبحكمته أقامه فيه، ولا يليق به غيرُه ولا يصلُح له سواه، ولا مانِع لما أعطى اللَّهُ، ولا مُعطِىَ لما منع، ولا يمنع عبدَه حقاً هو للعبد، فيكون بمنعه ظالماً له، بل إنما منعه لِيتوسَّل إليه بمحابِّه ليعبُدَه، وليتضرَّع إليه، ويتذلَّل بين يديه، ويتملَّقه، ويُعطى فقرَه إليه حقَّه، بحيث يشهد في كل ذرَّةٍ من ذَرَّاته الباطنةِ والظاهرةِ فاقة تامةً إليه على تعاقُب الأنفاس، وهذا هو الواقعُ في نفس الأمر، وإن لم يشهده العبدُ فلم يمنع الربُّ عبده ما العبدُ محتاج إليه بخلاً منه، ولا نقصاً مِن خزائنه، ولا استئثاراً عليه بما هو حقٌّ للعبد، بل منعه ليردَّه إليه، ولِيعزَّه بالتَّذَلُّلِ له، وليُغنيَه بالافتقار إليه، ولِيَجْبُرَهُ بالانكسار بين يديه، وليُذيقَه بمرارةِ المنع حلاوةَ الخضوع له، ولذةَ الفقر إليه، وليُلبسه خلعة العبودية، ويولِّيه بعز له أشرفَ الولايات، ولِيُشْهِدَهُ حكمته في قُدرته، ورحمتَه في عزته، وبِرَّه ولطفَه في قهره، وأنَّ منعه عطاءٌ، وعزلَه تولية، وعقوبتَه تأديبٌ، وامتحانَه محبةٌ وعطية، وتسليطَ أعدائه عليه سائقٌ يسوقه به إليه. وبالجملة فلا يليق بالعبد غير ما أقيم فيه، وحكمتهُ وحمدُه أقاماه في مقامه الذي لا يليقُ به سِوَاه، ولا يَحْسُنُ أن يتخطَّاه، واللَّهُ أعلمُ حيثُ يجعلُ مواقعَ عطائِهِ وفضله، واللَّهُ أعلمُ حيثُ يجعل رسالتَهُ والمقصودُ أنَّ النبى صلى الله عليه وسلم استعاذ مِن الهمِّ والحَزَنِ، وهما قرينانِ، ومِنَ العَجزِ والكَسَلِ، وهما قرينان، فإنَّ تَخلُّفَ كمالِ العبد وصلاحِهِ عنه، إما أن يكون لِعدم قدرته عليه، فهو عجز، أو يكونَ قادراً عليه، لكن لا يُريدُ فهو كسل، وينشأ عن هاتين الصفتين، فواتُ كُلِّ خير، وحصولُ كلِّ شر، ومن ذلك الشر تعطيلُه عن النفع ببدنه، وهو الجبن، وعن النفع بماله، وهو البخل، ثم ينشأ له بذلك غلبتان: غلبة بحق، وهى غلبة الدَّيْن، وغلبة بباطل، وهى غلبةُ الرِّجال، وكلُّ هذه المفاسد ثمرة العجز والكسل، ومن هذا قولُه في الحديث الصحيحِ للرجل الذي قضى عليه، فقال: حَسْبِىَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ، فَقَالَ: (إنَّ اللَّه يَلُومُ عَلَى العَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بالكَيْسِ، فإذَا غَلَبَكَ أمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِىَ اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ)، فهذا قال: حَسْبِىَ اللَّهُ ونِعمَ الوكيلُ بعد عجزه عن الكَيْس الذي لو قام به، لقضى له على خصمه، فلو فعلَ الأسبابَ التي يكون بها كَيِّساً، ثمَّ غُلِبَ فقال: حَسْبِىَ اللَّهُ ونِعْمَ الوكيلُ، لكانت الكلمةُ قد وقعت موقعها، كما أن إبراهيم الخليلَ، لما فعل الأسباب المأمورَ بها، ولم يعجِزْ بتركِها، ولا بتركِ شئ منها، ثم غلبهُ عدوُّه، وألقَوْه في النار، قال في تلك الحال: حَسْبِىَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكيلُ فوقعت الكلمةُ موقعها، واستقرت في مظانِّها، فأثَّرت أثرها، وترتَّب عليها مقتضاها. وكذلك رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابُه يوم أُحُد لما قيل لهم بعد إنصرافهم من أُحُد: إن الناسَ قد جمعوا لكم فاخشوهم، فتجهزوا وخرجوا للقاء عدوِّهم، وأعطَوهم الكَيْسَ من نفوسهم، ثم قالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوكيلُ. فأثرت الكلِمة أثرَهَا، واقتضت موجبَها، ولهذا قال تعالى: ومن هاهنا غلط طائفتان من الناس، إحداهما: زعمت أن التوكلَ وحده سبب مستقلّ كافٍ في حصول المراد، فعطَّلت له الأسبابَ التي اقتضتها حِكمةُ اللَّه الموصلة إلى مسبِّباتها، فوقعوا في نوع تفريط وعجز بحسب ما عطَّلوا من الأسباب، وضَعُفَ توكُّلُهم من حيث ظنوا قوتَه بانفراده عن الأسباب، فجمعوا الهمَّ كُلَّه وصيَّروه هماً واحداً، وهذا وإن كان فيه قوة من هذا الوجه، ففيه ضَعفٌ من جهة أُخرى، فكلما قوى جانبُ التوكل بإفراده، أضعفه التفريطُ في السبب الذي هو محلُّ التوكل، فإن التوكلَ محلُّه الأسباب، وكمالُه بالتوكل على اللَّه فيها، وهذا كتوكل الحرَّاثِ الذي شق الأرض، وألقى فيها البِذر، فتوكل على اللَّه في زرعه وإنباتِه، فهذا قد أعطى التوكُّل حقه، ولم يضعُف توكُّله بتعطيل الأرض وتخليتها بوراً، وكذلك توكُّل المسافر في قطع المسافة مع جِدِّه في السَّيْرِ، وتوكُّل الأكياس في النجاة من عذاب اللَّه والفوزِ بثوابه مع اجتهادهم في طاعته، فهذا هو التوكلُ الذي يترتَّبُ عليه أثرُه، ويكون اللَّهُ حَسْبَ مَن قام به. وأما توكلُ العجز والتفريطِ، فلا يترتبُ عليه أثرُه، وليس اللَّه حَسْبَ صاحِبه، فإن اللَّه إنما يكون حَسْبَ المتوكِّل عليه إذا اتّقاه، وتقواه فعلُ الأسباب المأمور بها، لا إضاعتُها. والطائفة الثانية: التي قامت بالأسباب، ورأت ارتباطَ المسبِّبات بها شرعاً وقدَراً، وأعرضت عن جانب التوكل، وهذه الطائفةُ وإن نالت بما فعلته من الأسباب ما نالته، فليس لها قوةُ أصحابِ التوكل، ولا عونُ اللَّه لهم وكفايتُه إياهم ودفاعُه عنهم، بل هي مخذولةٌ عاجزة بحسب ما فاتها من التوكّل. فالقوّةُ كلُّ القُوَّة في التوكل على اللَّه كما قال بعضُ السَلَف: مَن سرَّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللَّه، فالقوةُ مضمونة للمتوكِّل، والكفاية والحَسْبُ والدفع عنه، وإنما يَنْقُصُ عليه من ذلك بقدر ما يَنْقُصُ من التقوى والتوكل، وإلا فمع تحققه بهما لا بد أن يجعل اللَّه له مخرجاً مِن كُلِّ ما ضاق على الناس، ويكونُ اللَّهُ حسبَه وكافيه، والمقصودُ أن النبى صلى الله عليه وسلم أرشد العبدَ إلى ما فيه غايةُ كماله، ونيلُ مطلوبه، أن يحرصَ على ما ينفعُه، ويبذُلَ فيه جهده، وحينئذ ينفعُه التحسُّب وقولُ: (حَسْبِىَ اللَّهُ ونِعْمَ الوكيلُ) بخلاف مَن عجز وفرَّط حتى فاتته مصلحته، ثم قال:(حَسْبِى اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكيلٌُ) فإن اللَّه يلومه، ولا يكون في هذا الحال حَسْبَه، فإنما هو حَسَبُ مَن اتَّقاه، وتوكَّل عليه. كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم أكملَ الخلق ذِكْراً للّه عَزَّ وجَلَّ، بل كان كلامُه كُلُّهُ في ذِكر اللَّه وما والاه، وكان أمرُهُ ونهيُه وتشريعُه للأمة ذِكْراً منه لِلَّهِ، وإخبارُهُ عن أسماءِ الربِّ وصِفاتِه، وأحكامِهِ وأفعاله، ووعدِه ووعيده، ذِكراً منه له، وثناؤُه عليه بآلائه، وتمجيدُه وحمدُه وتسبيحُه ذكراً منه له، وسؤالُه ودعاؤه إياه، ورغبتُه ورهبتُه ذِكراً منه له، وسكوته وصمتُه ذِكراً منه له بقلبه، فكان ذاكراً للّه في كل أحيانه، وعلى جميع أحواله، وكان ذِكْرُهُ لِلًَّهِ يجرى مع أنفاسه، قائماً وقاعداً وعلى جنبه، وفى مشيه وركوبه ومسيره، ونزولِه وظعنه وإقامته. وكان إذا استيقظَ قال: (الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أحْيانَا بَعْدَ مَا أمَاتَنَا وإلَيْهِ النُّشُورُ). وقالت عائشةُ: كان إذَا هَبَّ مِنَ اللَّيْلِ، كَبَّر اللَّهَ عَشْراً، وحَمِدَ اللَّه عَشْراً، وقَالَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ) عَشْراً، (سُبْحَانَ المَلِكِ القُدُّوسِ) عَشْراً، واسْتَغْفَرَ اللَّهَ عَشْراً، وهَلَّلَ عَشْراً، ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ مِنْ ضِيقِ الدُّنيَا، وَضِيقِ يَوْمِ القِيَامَةِ) عَشْراً، ثُمَّ يَسْتَفْتِحُ الصلاة. وقالت أَيْضاً: كَانَ إذا اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: (لاَ إلهَ إلاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ، اللَّهُمَّ أَسْتَغْفِرُكَ لِذَنْبِى، وَأَسْأَلُكَ رَحْمَتَكَ، اللَّهُمَّ زِدْنِى عِلَمَاً وَلاَ تُزِغْ قَلْبِى بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنِى، وَهَبْ لِى مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ) ذكرهما أبو داود وأخبر أنَّ مَن استيقظَ من اللّيْل فَقَالَ: (لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَئٍ قَدِيرٌ، الحمدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلاَ إلهَ إلاَّ اللَّهُ، واللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ} [العَلِىِّ العَظِيمِ]) - ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ اغْفِر لِى - أَوْ دعا بدعاء آخر، - استُجِيبَ لَهُ، فإنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى، قُبِلَتْ صَلاَتُه) ذكره البخارى وقال ابنُ عباس عنه صلى اللَّه عليه وسلم لَيْلَةَ مَبيتِهِ عِنْدَهُ: إنَّهُ لَمَّا اسْتَيْقَظَ، رَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ وَقَرَأَ العَشْرَ الآيَاتِ الخَواتِيمُ مِنْ سُورَةِ (آلِ عِمْرَانَ): ثم قال: (اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أنْتَ نُورُ السَّمَاواتِ والأرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَقَوْلُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، ومُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإلَيْكَ أنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِى مَا قَدَّمتُ وَمَا أخَّرْتُ، وَمَا أسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ إلهِى، لاَ إلهَ إلاَّ أنْتَ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللَّهِ العَلِىِّ العَظِيمِ). وقد قالت عائشةُ رضى اللَّه عنها: كَانَ إذَا قَامَ مِنَ اللَّيلِ قال: (اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاواتِ والأرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، إهْدِنِى لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بإذنك، إنَّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). ورُبَّمَا قالت: كان يفتتِحُ صلاتَهُ بِذَلكَ، وكانَ إذا أوتر، ختم وتره بعدَ فَراغِهِ بِقولِه: (سُبْحَانَ الملِكِ القُدُّوسِ) ثلاثاً، ويَمُدُّ بالثَّالِثَةِ صَوْتَه. وكَانَ إذَا خَرجَ مِن بَيتِهِ يَقُولُ: (بسم اللَّه، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، اللَّهُمَّ إنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أوْ أُضَلَّ، أَو أزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَىَّ) حَدِيث صحيح. وقال صلى اللَّه عليه وسلم: (مَنْ قَالَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ: بِسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ، يُقَالُ لَهُ: هُدِيتَ، وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ، وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ) حديث حسن وقال ابنُ عباس عنه ليلةَ مبيته عِندهُ: إنَّهُ خرج إلى صَلاةِ الفجر وهُو يَقُولُ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ في قَلْبِى نُوراً، واجْعَلْ في لِسَانِى نُورَاً، وَاجْعَلْ في سَمْعِى نُورَاً، واجْعَلْ في بَصَرِى نُورَاً، واجْعَلْ مِنْ خَلْفِى نُورَاً، ومِنْ أمَامِى نُوراً، واجْعَلْ مِنْ فَوْقِى نُوراً، وَاجْعَلْ مِنْ تَحْتِى نُوراً، اللَّهُمَّ أعْظِمْ لِى نُوراً). وقال فُضيل بن مرزوق، عَن عَطِيَّة العَوْفِى، عن أبى سعيدٍ الخُدْرِىِّ قال: قالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِهِ إلى الصَّلاَةِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنِى أسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَبِحَقِّ مَمْشَاىَ هذَا إلَيْكَ، فَإنِّى لَمْ أَخْرُجْ بَطَرَاً وَلاَ أشَراً، وَلاَ ريَاءً، وَلاَ سُمْعَةً، وَإنَّمَا خَرَجْتُ اتِّقَاءَ سُخْطِكَ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، أَسْأَلُكَ أنْ تُنْقِذَنِى مِنَ النَّارِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِى ذُنُوبِى، فَإنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ أنْتَ، إلاَّ وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ، وَأَقْبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ حَتَّى يَقْضِى صَلاتَه). وذكر أبو داود عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه كان إذا دخل المسجدَ قال: (أَعُوذُ بِاللَّهِ العَظِيمِ، وبِوَجْهِهِ الكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ القَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَإذَا قَالَ ذلِكَ قال الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّى سَائِرَ اليَوْمِ). وقال صلى اللَّه عليه وسلم: (إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِى أبْوَابَ رَحْمَتِكَ، فَإذَا خَرَجَ، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّى أسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ). وَذُكر عنه: (أنَّهُ كانَ إذَا دَخَلَ المَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى ذنوبى، وافْتَحْ لِى أبْوَابَ رَحْمَتِكَ، فَإذَا خَرَجَ صَلَّى عَلى مُحمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّم، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى ذُنُوبِى وَافْتَح لِى أبْوَابَ فَضْلِكَ). وكَانَ إذَا صلَّى الصُّبْحَ، جَلَسَ في مُصلاَّه حَتَّى تطلُعَ الشَّمْسُ يَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وكان يقول إذَا أَصْبَحَ: (اللَّهُمَّ بِكَ أصْبَحْنَا، وَبِكَ أمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبكَ نَمُوتُ، وَإلَيْكَ النُّشُورُ) حديث صحيح وكان يَقُولُ: (أصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ المُلْكُ لِلَّهِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ، رَبِّ أسْأَلُكَ خَيْرَ مَا في هذَا اليَوْم، وَخَيْرَ مَا بَعْدَهُ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ شرِّ هذَا اليَوْمِ، وَشرِّ مَا بَعْدَهُ، رَبِّ أعُوذُ بِكًَ مِنَ الكَسَلِ، وَسُوءِ الكِبَر، رَبِّ أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ في النَّارِ، وعَذَابٍ في القَبْرِ، وإذَا أمْسَى قَالَ: أمْسَيْنَا وَأَمْسَى المُلْكُ لِلَّهِ...) إلى آخِرِهِ. ذكره مسلم وقال له أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رضىَ اللَّهُ عنهُ: مُرْنى بِكَلِمَاتٍ أقُولُهُنَّ إذَا أصْبَحْتُ وإذَا أَمْسَيْتُ، قَالَ: قُلْ: (اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاواتِ والأرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَىءٍ وَمَلِيكَهُ وَمَالِكه، أشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ أنْتَ، أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ نَفْسِى، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكهِ، وأنْ أقْتَرِفَ عَلَى نَفسِى سُوءاً أوْ أَجُرَّهُ إلَى مُسْلِمٍ) قال: (قُلْهَا إذَا أَصْبَحْتَ وَإذَا أمْسَيْتَ، وإذَا أخَذْتَ مَضْجَعَكَ) حديث صحيح وقال صلى اللَّه عليه وسلم: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ في صَبَاحِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ: بِسْمِ اللَّهِ الذي لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَىءٌ في الأرْضِ وَلاَ في السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ - ثَلاَتَ مَرَّاتٍ - إلاَّ لَمْ يَضُرَّهُ شَىْء) حديث صحيح وقال: (مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِى: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبَّاً، وَبِالإسْلاَمِ دِينَاً، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيَّاً، كَانَ حَقَّاً عَلَى اللَّهِ أنْ يُرْضِيَهُ) صححه الترمذى والحاكم وقال: (مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِى: اللَّهُمَّ إنِّى أصْبَحْتُ أُشْهِدُكَ، وَأُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وَمَلائِكَتَكَ، وَجَمِيعَ خَلْقِكَ، أنَّكَ أنتَ اللَّهُ الذي لاَ إلَهَ إلاَّ أنْتَ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، أَعْتَقَ اللَّهُ رُبْعَهُ مِنَ النَّارِ، وَإنْ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ، أَعْتَقَ اللَّهُ نِصْفَهُ مِنَ النَّارِ، وإنْ قَالَهَا ثَلاثاً، أَعْتَقَ اللَّهُ ثَلاثَة أَرْبَاعِهِ مِنَ النَّارِ، وَإنْ قَالَهَا أرْبَعاً أَعْتَقَهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ) حديث حسن وقالَ: (مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِى مِنْ نِعْمَةٍ أوْ بأحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ، فَمِنْكَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ، لَكَ الحَمْدُ، وَلَكَ الشُّكْرُ، فَقَدْ أدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ، وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِيْنَ يُمْسِى، فَقَدْ أدَّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ) حديث حسن وكَانَ يدعو حينَ يُصبح وحينَ يُمْسِى بهذِهِ الدعَواتِ: (اللَّهُمَّ إنِّى أسْأَلُكَ العَافِيَةَ في الدُّنْيَا والآخِرَة، اللَّهُمَّ إنِّى أَسْأَلُكَ العَفْوَ وَالعَافِية في دِينِى وَدُنْيَاىَ وَأهْلِى وَمَالِى، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِى، وآمِنْ رَوْعَاتِى، اللَّهُمَّ احْفظْنِى مِنْ بَيْن يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِى، وَعَنْ يمينى وَعَنْ شِمَالِى، وَمِنْ فَوْقِى، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِى) صححه الحاكم وقال: (إذَا أصْبَحَ أحَدُكُم، فَلْيَقُلْ: أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ المُلْكُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، اللَّهُمَّ إنِّى أَسْأَلُكَ خَيْرَ هذَا الْيَوْمِ: فَتْحَهُ وَنَصْرَهُ وَنُورَهُ وَبَرَكَتَه وَهِدَايَتَهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ وَشَرِّ مَا بَعْدَهُ، ثُمَّ إذَا أمْسَى، فَلْيَقُلْ مِثْلَ ذلِكَ) حديث حسن وذكرَ أبو داود عنه أنه قال لِبعض بناتِهِ: (قُولِى حِيْنَ تُصْبِحِينَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ العَلِىِّ العَظِيمِ، مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأ لَمْ يَكُنْ، أعْلَمُ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَىْءٍ قديرٌ، وأنّ اللَّه قَدْ أحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْماً، فَإنَّهُ مَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُصْبِحُ، حُفِظَ حَتَّى يُمْسِىَ، وَمَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يُمْسِى حُفِظَ حَتَّى يُصْبِحَ). وقال لرجل من الأنصار: (ألاَ أُعَلِّمُكَ كَلاَماً إذَا قُلْتَهُ أذْهَبَ اللَّهُ هَمَّكَ، وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ)؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: (قُل إذَا أصْبَحْتَ وَإذَا أمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ والكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ وَالبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وقَهْرِ الرِّجَالِ) قال: فقلتُهن، فأذهب اللَّه همِّى وقضًَى عنى دَيْنى. وكان إذا أصبح قال: (أصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الإسْلاَمِ، وَكَلِمَةِ الإخْلاصِ، ودِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَمِلَّةِ أبِينَا إبْرَاهِيمَ حَنِيفاً مُسْلِماً، وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ). هكذا في الحديث: (ودين نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم) وقد استشكله بعضُهم وله حُكْمُ نظائِره كقوله في الخُطَبِ والتشهُّد في الصلاة: (أشهدُ أن محمداً رسولُ اللَّه) فإنه صلى اللَّه عليه وسلم مكلَّف بالإيمان بأنه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى خلقه، ووجوبُ ذلك عليه أعظمُ من وجوبه على المرسَل إليهم، فهو نبى إلى نفسه وإلى الأُمَّة التي هو منهم، وهو رسول اللَّه إلى نفسه وإلى أُمَّته. ويُذكَرُ عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال لِفاطمة ابنتهِ: (مَا يَمْنَعُكِ أنْ تَسْمَعِى مَا أُوصِيكِ بِهِ: أنْ تَقُولِى إذَا أصْبَحْتِ وَإذَا أمْسَيْتِ: يَا حَىٌُّ، يَا قَيُّومُ بك أستغيث، فأصلح لى شأنى، ولا تَكِلْنِى إلى نفسى طرفةَ عَيْنٍ). ويُذكرُ عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال لِرجل شكا إليهِ إصابةَ الآفاتِ: (قُل: إذَا أصْبَحْتَ: بِسْمِ اللَّهِ عَلَى نَفْسِى، وَأَهْلِى وَمَالِى، فَإنَّهُ لا يَذْهَبُ عَلَيْكَ شَىءٌ). ويُذكَر عنه أنه كان إذَا أصبح قالَ: (اللَّهُمَّ إنِّى أسْأَلُكَ عِلْماً نَافِعاً، وَرِزْقاً طَيِّباً، وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً). ويُذكر عنه صلى اللَّه عليه وسلم: إن العبد إذا قالَ حِينَ يُصبِحُ ثلاثَ مرات: (اللَّهُمَّ إنِّى أَصْبَحْتُ مِنْكَ في نِعْمَةٍ وَعَافِيَةٍ وَسِتْرٍ، فَأَتْمِمْ عَلَىَّ نِعْمَتَكَ وَعَافِيَتَكَ وَسِتْرَكَ في الدُّنيَا والآخِرَةِ، وإذَا أمْسى، قالَ ذلِك، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أنْ يُتِمَّ عَلَيْهِ). وَيذكر عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: (مَنْ قَالَ في كُلِّ يَوْمٍ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِى: حَسْبِىَ اللَّهُ لاَ إلَه إلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمُ - سَبْعَ مَرَّاتٍ - كَفَاهُ اللَّهُ مَا أهَمَّهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ). ويُذكر عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه من قالَ هذِهِ الكَلِمَاتِ في أوَّلِ نَهَارِهِ، لَمْ تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ حَتَّى يُمْسِىَ، وَمَنْ قَالَهَا آخِرَ نَهَارِهِ لَمْ تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ حَتَّى يُصْبِحَ: (اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى، لاَ إله إلاَّ أنْتَ، عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَأنْتَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللَّهِ العَلِىِّ العَظِيمِ، أعْلَمُ أنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، وَأنَّ اللَّهَ قَدْ أحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْماً، اللَّهُمَّ إنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِى، وَشَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، إنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وقَد قِيلَ لأبى الدرداء: قدِ احترق بيتُك فقالَ: ما احترقَ، ولم يكن اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ لِيفعل، لِكَلِمَاتٍ سمعتهُنَّ مِنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فذكرها. وقالَ: (سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أنْ يَقُولَ العبدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى، لاَ إلهَ إلاَّ أنْتَ خَلَقْتَنِى وَأنَا عَبْدُكَ، وَأنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَىَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِى، فَاغْفِرْ لِى إنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُنُوبَ إلاَّ أَنْتَ، مَنْ قالَهَا حِينَ يُصْبِحُ موقِناً بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ، دَخَلَ الجَنَّةَ، ومَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِى مُوقِناً بِهَا، فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ، دَخَلَ الجَنَّةَ). (ومَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِى: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ - مِائَةَ مَرَّةٍ - لَمْ يَأْتِ أَحدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلاَّ أحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ، أوْ زَادَ عَلَيْهِ). وَقَالَ: (مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ عَشْرَ مَرَّاتٍ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، ولَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّه لَهُ بِهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمَحَا عَنْهُ بها عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَكَانَتْ كَعِدْل عَشْر رِقَابٍ، وَأَجَارهُ اللَّهُ يَوْمَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَإِذَا أمْسَى فَمِثْلُ ذلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ). وقال: (مَنْ قَالَ حِيْنَ يُصْبِحُ: لاَ إلَه إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ، في الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدلَ عَشْر رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مائةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْ مِائَةُ سَيِّئَة، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذلِكَ حتى يُمْسِىَ، وَلَمْ يَأْتِ أحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أكْثَرَ مِنْهُ). وفى (المسند) وغيرهِ أنه - صلى اللَّه عليه وسلم - علَّم زيدَ بن ثابت، وأمره أن يتعَاهَدَ بهِ أهله في كلِّ صباح: (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالخَيْرُ في يَدَيْكَ، وَمِنْكَ وَبِكَ وَإلَيْكَ، اللَّهُمَّ مَا قُلْتُ مِنْ قَوْلٍ، أوْ حَلَفْتُ مِنْ حَلِفٍ، أوْ نَذَرْتُ مِنْ نَذْرٍ، فَمَشِيئَتُكَ بَيْنَ يَدَىْ ذلِكَ كُلّه، ما شِئْتَ كَانَ، وَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِكَ، إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ مَا صَلَّيْتَ مِنْ صَلاَةٍ فَعَلَى مَنْ صَلَّيْتَ، وَمَا لَعَنْتَ مِنْ لَعْنَةٍ، فَعَلَى مَنْ لَعَنْتَ، أَنْتَ وَليى في الدُّنْيَا والآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَألْحِقْنِى بالصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّماواتِ والأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهادَةِ، ذَا الجَلاَلِ والإكْرَامِ. فَإنِّى أعْهَدُ إلَيْكَ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأُشْهِدُكَ - وَكَفَى بِكَ شَهِيداً - بِأَنِّى أشْهَدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ أنْتَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ، لَكَ المُلْكُ، وَلَكَ الحَمْدُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَأَشْهَدُ أنَّ وَعْدَكَ حَقٌ، وَلِقَاءَكَ حَقٌ، وَالسَّاعَةُ حَقٌ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّكَ تَبْعَثُ مَنْ في القُبُورِ، وَأشْهَدُ أنَّكَ إنْ تَكِلْنِى إلى نَفْسِى تَكِلْنِى إلى ضَعْفٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، وَإنِّى لاَ أثِقُ إلاَّ برَحْمَتِكَ، فَاغْفِرْ لِى ذُنُوبِى كُلَّهَا إنه لاَ يَغْفِرُ الذُنُوبَ إلاَّ أنْتَ، وَتُبْ عَلىَّ إنَّكَ أنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمٍُ). كانَ صلى اللَّه عليه وسلم إذَا استجدَّ ثوباً سمَّاه باسمه، عِمامةً، أو قميصاً، أو رِدَاءً، ثم يقول: (اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، أنْتَ كَسَوْتَنِيهِ، أسْأَلُكَ خَيْرَهُ، وَخَيْرُ مَا صُنِعَ لَهُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ، وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ) حديث صحيح. ويُذكر عنه أنه قال: (مَنْ لَبِسَ ثَوْباً فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي كَسَانِى هذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّى وَلاَ قُوَّة، غَفَرَ اللَّه له مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ). وفى (جامع الترمذى) عن عُمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه قال: سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ لَبِسَ ثَوْباً جَدِيداً فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي كَسَانِى مَا أُوَارِى بِهِ عَوْرَتِى، وَأتجَمَّلُ بِهِ في حَيَاتِى، ثُمَّ عَمَدَ إلَى الثَّوْبِ الذي أخْلَقَ فَتَصَدَّقَ به، كَانَ في حِفْظِ اللَّهِ، وفى كَنَفِ اللَّهِ، وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ، حَيّاً وَمَيْتاً). وصحَّّ عنه أنه قال لأُمِّ خالد لما ألبسها الثوب الجديد: (أبْلِى وَأَخْلِقِى، ثم أبلى وأخلقى - مَرَّتَيْنِ). وفى (سنن ابن ماجه) أنه صلى اللَّه عليه وسلم رأى على عُمَر ثوباً فقالَ: (أَجَدِيدٌ هذَا، أمْ غَسِيلٌ)؟ فَقَالَ: بَلْ غَسِيلٌ، فقالَ: (الْبَسْ جَدِيداً، وَعِشْ حَمِيداً، ومُتْ شَهِيداً). لم يكن صلى اللَّه عليه وسلم لِيفجأ أهله بغتةً يتخوَّنُهم، ولكن كان يدخلُ على أهله على عِلْم منهم بدخوله، وكان يُسَلِّمُ عليهم، وكان إذا دخل، بدأ بالسؤال، أو سأل عنهم، وربما قال: (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ غَدَاءٍ)؟ وربما سكت حتى يحضرَ بين يديه ما تيسّر. ويُذكر عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه كان يقولُ إذا انقلب إلى بيته: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي كَفَانِى، وَآوَانِى، وَالحَمْدُ لِلَّهِ الذي أَطْعَمَنِى وَسَقَانِى، وَالحَمْدُ لِلَّهِ الذي مَنَّ عَلَىَّ فَأَفْضَلَ، أسْأَلُكَ أنْ تُجِيرَنِى مِنَ النَّار). وثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال لأنَس: (إذَا دَخلْتَ عَلَى أهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَىَ أهْلِكَ). قال الترمذى: حديث حسَن صحيح. وفى السنن عنه صلى اللَّه عليه وسلم: (إذَا وَلَجَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّى أَسْأَلُكَ خَيْرَ المَوْلَجِ، وَخَيْرَ المَخْرَجِ، بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا، وعَلَى اللَّه رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا، ثُمَّ لِيُسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهِ). وفيها عنه صلى اللَّه عليه وسلم: (ثَلاثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّه: رَجُلٌ خَرَجَ غَازياً في سَبِيلِ اللَّهِ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الجَنَّةَ أوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أجْرٍ وَغَنِيمةٍ، وَرَجُلٌ رَاحَ إلَى المَسْجِدِ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّه حَتَّى يَتَوفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الجَنَّةَ أوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أجْرٍ وَغَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلامٍ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّه) حديث صحيح. وصح عنه صلى اللَّه عليه وسلم: (إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَر اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لا مَبِيتَ لَكُمْ وَلاَ عَشَاءَ، وَإذَا دَخَلَ، فَلَمْ يذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ المَبِيتَ، وَإذَا لَمْ يذْكُرِ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أدْرَكْتُمُ المَبِيتَ والعَشَاء) ذكره مسلم. ثبت عنه في (الصحيحين) أنه كان يقولُ عند دخوله الخلاء: (اللَّهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ والخَبَائِثِ). وذكر أحمد عنه أنه أمر مَنْ دخل الخلاء أن يقولَ ذلك. ويُذكر عنه: (لا يَعْجِزْ أحَدُكُم إذَا دَخَلَ مَرْفِقَهُ أنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ مِنَ الرِّجْسِ النَّجِسِ، الخَبيث المُخْبِثِ، الشَّيْطَانِ الرَّجِيم). ويُذكر عنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: (سَتْرُ مَا بَيْنَ الجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِى آدَمَ إذَا دَخَلَ أحَدُكُمُ الكَنِيفَ أنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ). وثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم أن رجلاً سلَّمَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبُولُ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ. وأخبر أن اللَّه سبحانه يمقُت الحديث على الغائط: فَقَالَ: (لاَ يَخْرُج الرَّجُلاَنِ يَضْرِبَانِ الغَائِطَ كَاشِفينَ عَنْ عَوْرَاتِهِمَا يَتَحَدَّثَانِ، فإنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ). وقد تقَدَّمَ أنه كان لا يستقْبِلُ القِبْلة ولا يستدبِرُهَا ببولٍ ولا بغائط، وأنه نهى عن ذلك في حديث أبى أيوب، وسلمان الفارسى، وأبى هريرة، ومعقل بن أبى معقل، وعبد اللَّه بن الحارث بن جزء الزبيدى، وجابر بن عبد اللَّه، وعبد اللَّه بن عمر، رضى اللَّه عنهم، وعامةُ هذه الأحاديث صحيحةٌ، وسائُرها حسن، والمعارِضُ لها إما معلول السندِ، وإما ضعيفُ الدلالة، فلا يُرد صريحُ نهيه المستفيضُ عنه بذلك، كحديث عِراك عن عائشة: ذُكِرَ لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن أناساً يكرهون أن يستقبلوا القِبْلة بفرُوجهم، فقال: (أَوَ قد فعلُوها؟ حوِّلوا مَقْعَدَتى قِبَلَ القِبْلَةِ) رواه الإمام أحمد وقال: هو أحسن ما رُوى في الرخصة وإن كان مرسلاً، ولكن هذا الحديث قد طعن فيه البخارىُّ وغيرُه من أئمة الحديث، ولم يُثِبتُوه، ولا يقتضى كلامُ الإمام أحمد تثبيتَه ولا تحسينَه. قال الترمذى في كتاب (العلل الكبير) له: سألتُ أبا عبد اللَّه محمد ابن إسماعيل البخارى عن هذا الحديث، فقال: هذا حديثٌ فيه اضطراب، والصحيحُ عندى عن عائشة من قولها انتهى. قلت: وله عِلَّة أُخرى، وهى انقطاعه بين عراك وعائشة، فإنه لم يسمع منها، وقد رواه عبد الوهَّاب الثقفى عن خالد الحذَّاء عن رجل عن عائشة، وله عِلَّة أخرى، وهى ضعف خالد بن أبى الصلت. ومن ذلك حديثُ جابرٍ: (نهى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تُستقبل القِبْلةُ ببولٍ، فرأيتهُ قبل أن يُقبض بعام يستقبلها)، وهذا الحديث استغربه الترمذى بعد تحسينه، وقال الترمذى في كتاب (العلل): سألت محمداً - يعنى البخارى - عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث صحيح، رواه غيرُ واحد عن ابن إسحاق، فإن كان مراد البخارى صحته عن ابن إسحاق، لم يدل على صحته في نفسه، وإن كان مراده صحته في نفسه، فهى واقعة عين، حكمُها حكم حديث ابن عمر لما رأى رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقضى حاجَته مستدبر الكعبة، وهذا يحتمِلُ وجوهاً ستة: نسخُ النهى به، وعكسُه، وتخصيصُه به صلى اللَّه عليه وسلم، وتخصيصُه بالبنيان، وأن يكونَ لعذر اقتضاه لمكان أو غيره، وأن يكون بياناً، لأن النهى ليس على التحريم، ولا سبيلَ إلى الجزم بواحد من هذه الوجوه على التعيين، وإن كان حديثُ جابر لا يحتمل الوجه الثانى منها، فلا سبيل إلى ترك أحاديث النهى الصحيحة الصريحة المستفيضة بهذا المحتَمَلِ، وقولُ ابنِ عمر: إنما نهى عن ذلك في الصحراء، فَهْمٌ منه لاختصاص النهى بها، وليس بحكاية لفظ النهى، وهو معارَض بفهم أبى أيوب للعموم مع سلامة قولِ أصحاب العموم من التناقض الذي يلزم المفرِّقين بين الفضاء والبنيان، فإنه يقال لهم: ما حدُّ الحاجز الذي يجوزُ ذلك معه في البنيان؟ ولا سبيل إلى ذكر حدٍّ فاصل، وإن جعلوا مطلق البنيان مجوِّزاً لذلك، لزمهم جوازه في الفضاء الذي يحول بين البائل وبينه جبل قريب أو بعيد، كنظيره في البنيان، وأيضاً فإن النهى تكريمٌ لجهة القِبْلة، وذلك لا يختلف بفضاء ولا بنيان، وليس مختصاً بنفسِ البيت، فكم من جبل وأكَمَةٍ حائل بين البائل وبين البيت بمثل ما تحول جُدرانُ البنيان وأعظم، وأما جهةُ القِبْلة، فلا حائل بين البائل وبينها، وعلى الجهة وقع النهى، لا على البيت نفسه فتأمله. وكان إذا خرج من الخلاء قال: (غُفْرَانَكَ)، ويُذكر عنه أنه كان يقول: (الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أذْهَبَ عَنِّى الأذَى، وَعَافَانِى) ذكره ابن ماجه ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه وضع يديه في الإناء الذي فيه الماء، ثم قال للصحابة: (تًَوَضَّؤوا بِسْمِ اللَّهِ). وثبت عنه أنه قال لجابر رضى اللَّه عنه: (نَادِ بِوَضُوءٍ) فجئ بالماء فقالَ: (خُذْ يَا جَابِرُ فَصُبَّ علىَّ وقُلْ: بِسْمِ اللَّه) قال: فَصَبَبْتُ عَلَيه، وقُلْتُ: بسم اللَّه، قال: فرأيتُ الماء يَفورُ مِنْ بَيْنَ أصَابِعه. وذكر أحمد عنه من حديث أبى هريرة، وسعيد بن زيد، وأبى سعيد الخدرى رضى اللَّه عنهم: (لاَ وُضُوءَ لِمَن لًَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ). وفى أسانيدها لين. وصحَّ عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: (مَن أسْبَغَ الوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ: أشْهَدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللَّه وَحْدَهُ لاَشَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أيَّهَا شَاءَ) ذكره مسلم وزاد الترمذى بعد التشهد: (اللَّهُمَّ اجْعَلْنِى مِنَ التَّوَابِينَ واجْعَلْنِى مِنَ المُتَطَهِّرِينَ) وزاد الإمام أحمد: ثمَّ رَفَعَ نَظَرَهُ إلى السَّمَاءِ. وزاد ابن ماجه مع أحمد: قول ذلك ثلاث مرات. وذكر بقىُّ بن مَخْلد في (مسنده) من حديث أبى سعيد الخدرى مرفوعاً: (مَنْ تَوَضَّأَ فَفَرَغَ مِنْ وضُوئِهِ، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبحَمْدِكَ أشْهَدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ أنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وأتُوبُ إلَيْكَ، كُتِبَ في رَقٍّ وطُبعَ عَلْيْهَا بِطَابعٍ، ثُمَّ رُفِعَتْ تَحْتَ العَرْشِ فَلَمْ يُكْسَرْ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ)، ورواه النسائى في كتابه الكبير من كلام أبى سعيد الخدرى، وقالَ النسائى: باب ما يقول بعد فراغه من وضوئه، فذكر بعض ما تقدم. ثم ذكر بإسناد صحيح من حديث أبى موسى الأشعرى قال: أتيتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم بوضوءٍ فتوضَّأَ، فسمعتُه يقول ويدعو: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى ذَنْبِى، وَوَسِّعْ لِى في دَارى، وبَارِكْ لِى في رِزْقِى) فقلتُ: يا نبىَّ اللَّهِ: سمعتُك تدعو بكذا وكذا، قال: (وهَلْ تَرَكَتْ مِنْ شَىْءٍ)؟ وقالَ ابن السنى: باب ما يقول بين ظهرانى وضوئه فذكره.
|